مغادرة الطائرة ال19 إلى لبنان ضمن الجسر الجوي الإغاثي السعودي    إشكالية نقد الصحوة    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    الاحتلال لا يعترف ب (الأونروا)    «الكونغرس» يختار الرئيس حال تعادل هاريس وترمب    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    النصر لا يخشى «العين»    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    المملكة ومولدوفا تعززان التعاون الثنائي    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    اتحاد الغرف يطلق مبادرة قانونية للتوعية بأنظمة الاستثمار في المملكة والبرتغال    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    «انسجام عالمي» تعزز التواصل مع المقيمين    شتاء طنطورة يعود للعُلا    12 تخصصاً عصبياً يناقشه نخبة من العلماء والمتخصصين بالخبر.. الخميس    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    ليلة الحسم    برعاية الأميرعبدالعزيز بن سعود.. انطلاق المؤتمر والمعرض الدولي الرابع لعمليات الإطفاء    سلوكيات خاطئة في السينما    إعادة نشر !    «DNA» آخر في الأهلي    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    1800 شهيد فلسطيني في العملية البرية الإسرائيلية بغزة    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    رئيس الشورى يستقبل السفير الأمريكي    مسلسل حفريات الشوارع    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    منظومة رقمية متطورة للقدية    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    تنوع تراثي    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    في شهر ديسمبر المقبل.. مهرجان شتاء طنطورة يعود للعلا    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    أمير تبوك يستقبل قنصل بنغلاديش    ترمب وهاريس في مهمة حصاد جمع الأصوات    «تطوير المدينة» تستعرض التنمية المستدامة في القاهرة    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على مناطق المملكة حتى السبت المقبل    وزير الدفاع يستقبل نظيره العراقي ويوقّعان مذكرة تفاهم للتعاون العسكري    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    قائد القوات المشتركة يستقبل الشيخ السديس        حرس الحدود بعسير يحبط تهريب 150 كلجم من القات    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا أريد أن أرى شارع العطايف على شاشات السينما أو التلفزيون
عبدالله بن بخيت في حوار عن روايته «شارع العطايف» ل «ثقافة اليوم» :
نشر في الرياض يوم 19 - 03 - 2009

في رواية شارع العطايف استعاد عبدالله بن بخيت رائحة الأشياء وأثث فضاءات نصه بالشخصيات الناضجة في بعدها النفسي. فنجد الأخطاء والنقائص والعذابات التي تؤلم وتخلق لدى القارئ إحساس المحبة أو الكراهية. الرواية تخلت عن تقديم الرياض في صورتها البرجوازية وذهبت إلى الحياة الأخرى في الحارات.. الحياة التي تكاد يخلو منها النص الروائي المحلي. رواية شارع العطايف بخصوصيتها الفنية والجدلية قد تكون الرواية الأهم لعام 2009 وفي هذا الحوار ل «ثقافة اليوم» يتحدث عبدالله بن بخيت عن روايته شارع العطايف :
} الخطر الأول الذي يواجهه الروائي الذي يكتب روايته الأولى هو كيف يستطيع التعامل مع الحكايات الشفهية التي تمتلئ بها ذاكرته.. كيف يأخذ منها ما يحتاجه نصه.. وهذا ما نجحت فيه إلى حد كبير في روايتك الأولى ( شارع العطايف). فالملاحظ انك حاولت تحجيم مخزون ذاكرتك بحيث لا تنجرف في تدوين حكايات الذاكرة ولصقها بالنص. وسؤالي كيف نجوت من هذا المأزق مابين حكايات الذاكرة وبين فضاء سردي يتطلب حشده بالأحداث والشخوص ؟
==أولا هذه ليست روايتي الأولى ولكنها روايتي الأولى التي أنشرها في كتاب. كما أنها ليست روايتي الأولى التي أنشرها فقد نشرت روايات قصيرة في أزمنة مختلفة في الجرائد. هناك فرق كبير بين الحكايات والقصص وبين الرواية. جمع الحكايات وسردها عمل انثربولوجي لا علاقة له بالرواية. الحكاية في الرواية ليست سوى حيلة للسرد أو أداة من أدوات السرد لما يسمى العرض(representation ). في كل رواية هناك حكاية تركب عليها الرواية. الرواية تقوم على بناء الشخصية والبحث عنها من خلال تتبع مصيرها. صراع الشخصية الروائية ليس مع المجتمع وليس مع الاقتصاد أو السياسة. بل مع مصيرها. إذا افترضنا أن الحياة فخ وقعنا فيه جميعا. الحكاية آخر شيء يطرأ على كاتب الرواية حتى أن ما عرف في الستينات بالرواية الحديثة حاول روادها التخلص النهائي من الحكاية. أقرأ أعمال آلان روب جرييه وكلود سيمون كمثال على ذلك تكاد تخلو من عنصر الحكاية.
} الكتابة عن عالم المهمشين ليس سهلا وأنت تمنحهم حياة سردية ليس من باب كشف المستور او فضح عوالمهم ولكن من باب التدوين.. هذا التدوين يأتي بكل الصخب والضجيج والنزق والانحرافات.. أبطال روايتك الثلاثة كانوا يفعلون الأفعال المشينة وأيضا كانت لهم أفعال تضيء النور الإنساني في دواخلهم ولا يتجلى هذا النور إلا في مرحلة العشق. لماذا كان العشق هو الرافعة الإنسانية الوحيدة التي تمنحهم بهجة الحياة ؟
==سؤالك هذا هو سؤال الرواية في نظري. بلغة الأكاديميين يمكن القول إن الرواية هي تاريخ من لا تاريخ لهم. الأفعال التي تمارسها شخصيات رواية شارع العطايف هي في الواقع جزء من حياة الناس. كل إنسان في الدنيا يمتلك خساساته الصغيرة أو الكبيرة التي يسعى طوال حياته أن يخفيها. أمر له علاقة بجوهر الوجود. كما قلت في جواب السؤال السابق: الحياة فخ. إنهم يحاولون الخروج من هذا الفخ والبقاء فيه في نفس الوقت. هذا ما يسميه نقاد الرواية الباردوي( paradox . دون حضور هذا الباردوي لا يوجد رواية. إذا عدت لما سميته المهمشين أحب أضيف شيئا مهما: كلمة (بطل) في الرواية باللغة العربية مضللة إلى أبعد حد. باللغة الإنجليزية هناك فرق بين كلمة بطل في رواية)(protagonist ) وكلمة (بطل) في الحياة(hero ). البطل في الحياة رجل ممجد يصنع الأحداث بينما البطل في الرواية لا علاقة له بالبطولة والمجد. إنه أي إنسان يحرك الأحداث. كلمتان مختلفتان: أما إذا تحدثنا عن العشق سترى أن شارع العطايف قائمة على العشق. في البداية أعطيت كل فصل اسما يؤكد حالة العشق التي تقوم عليها الرواية. الفصل الأول كان فحيج وحبيبته نوف والثاني شنغافة وحبيبته معدية والأخير سعندي وحبيبته بنت مستورة، ولكني عدلت عن ذلك لأسباب تكنيكية تتعلق بطول النص. العشق في الرواية كما هو في الحياة سبب الوجود لكننا لم نستوعب بعد أن الجنس هو البعد المادي للعشق بسبب سوء الفهم للصلة بين الحب وبين الجنس تحصل الالتباسات الكثيرة. البسطاء فقط هم الذين لا يشاهدون في الرواية سوى الجنس لأن خيالهم وإدراكهم الفلسفي لا يأخذانهم أبعد من ذلك.
} لم تبالغ في حشد تاريخ زمن السبعينات بشكل فج .. كانت اكسسورات تلك المرحلة تحضر بما يناسب النص. بهذا التصور هل نقول إن مفهوم ابن بخيت في تدوين الفضاء المكاني للنص.. هو يتكئ على رائحة الأشياء وعلى أفعال الشخوص ؟
==إذا كنت قد نجحت في سرد فترة السبعينات فهذا لم يأت لأني عبقري ولكن لأني تدربت كثيرا على بناء الزمان والمكان جيدا. استخدمت زاويتي يارا على مدى الخمسة عشر سنة السابقة على كتابة هذه الرواية. كتبت قصصا من أيام السبعينات حتى توصلت أخيرا إلى أفضل زاوية يمكن أن أقف عندها وأنظر إلى تلك الفترة التي مازلت أعيش فيها عاطفيا حتى الآن. ربما يتذكر المتابعون لزاويتي يارا وكتاباتي الأخرى سلاسل قصص نشرتها مثل: (عشاق مضاوي ومأساة لاعب كورة وحصة بنت صالح) وغيرها من الروايات القصيرة.
@هناك ربكة في النص وتؤثر على البعد الفني في الحكاية هو زمن النص.. فزمن الحكاية لا يتجاوز العشر سنوات.. ولكن أعمار شخصيات الرواية تعيش زمناً أطول من ذلك. هل من تفسير لهذا البعد الزمني في الرواية ؟
==كانت الرواية مكتوبة بطريقة التقطيع كما ترى في الأعمال التلفزيونية حيث يتداخل القص فيها. في كل ثلاث صفحات أو أربع أنتقل إلى الشخصية الأخرى. هذا هو التكنيك السائد والمعتاد(اقرأ رواية عمارة يعقوبيان كمثال) ولكني أعدت كتابتها بالطريقة التي تراها آخذ في حسابي أن 70% من قرائي قليلو الخبرة في قراءة الروايات. ستربكهم عملية التقطيع. حسب وجهي نظري لا يوجد مشكلة في زمن الرواية الداخلي، أما الزمن الخارجي فالأمر يعود لمن عاش في تلك الفترة. سيرى أني ركبت عقدين من الزمان معتمدا في ذلك على المراوحة بين الحاضر والماضي والمستقبل. على سبيل المثال ستلاحظ أني دمجت زواجي نوف في سردية واحدة. رغم أن زواجها الثاني جاء بعد سنوات من زواجها الأول. استخدمت نفس التكنيك في كثير من الحالات.
} الرواية ناضجة وبها احترافية سردية عالية.. الخوف عليها أن تقرأ كرواية تتحدث عن سيرة لشخوص عديمي الأخلاق في زمن السبعينات. وان يحدث الجدل حولها لا بصفتها رواية بل كوثيقة اجتماعية وبالتالي تفقد بعدها الفني.. هل تخشى ان تتحول الى الجدل والخصومة مع نصك خارج الإطار الروائي.
==مع احترامي لكل رأي لكن علي أن أقول إن الذين ينظرون إلى الشخصيات التي سردتها في هذا الكتاب نظرة أخلاقية هم البسطاء وعديمي الخبرة في قراءة النصوص الروائية. القراء المؤدلجين هم الذين يدخلون على النص بوصفهم قضاة. يدخلون على النص بالشعارات الأخلاقية اللامعة. يصدرون أحكاما من خارج النص. على فكرة بدأ المحافظون شتمي حتى قبل أن توزع الرواية ويقرأها أحد. أرجو من كل قلبي أن تخرج هذه الرواية من صراع التيارات المحتدم فكل أصدقائي يعرفون أني أهتم بالرواية قبل أن يبدأ هذا الجدل. الجدل قد يعطيها شهرة ويجلب لها قراء أكثر ولكنه يحط بها كعمل فني. يمكن أن أتحول من كاتب إلى نجم. سعيت لكتابة هذا النص منذ أكثر من ثلاثين سنة ولا علاقة له بما يدور الآن.أشير أن التجاذب الاجتماعي بين تياراته المختلفة في المملكة مس مفهوم الرواية الضعيف أصلا في ذهن القارئ السعودي. استقرت النظرة السعودية للرواية على مفهومين الأول: المقاربة السياقية.(CONTEXTUAL APPROACHES ). كل رواية سعودية سينظر إليها في سياق التجاذب الذي يحدث الآن. هناك أناس سيتقصدونني حتى قبل أن يقرؤوا النص وإذا قرؤوه فلن يجدون فيه شيء ذا نفع سيجدون فيه كل شيء يمكن أن يحط من قيمتي حتى كإنسان. والمفهوم الثاني: المقاربة النسوية(FEMINIST APPROACHES ) كل شيء تكتبه امرأة أو يتعلق بالأنثى يحال إلى هذه المقاربة. حظ فن الرواية سيء. بدأ تداولها في فترة تحول ثقافي .فصارت مادة لهذا التصارع ففقدت كثيرا من استقلاليتها كجنس أدبي. أخشى أن تمر سنوات، سنوات كثيرة حتى تستقر الرواية كجنس أدبي وليس أداة للتصارع.
} قبل أن أقرأ شارع العطايف كنت اخشى أن تتورط في لعبة الصراع الطبقي.. كنت أيضا اهجس بأنك ستذهب إلى مناطق جدل التيارات. لكنك أخذت عوالم روايتك إلى فضائهم الخاص ..كانوا مشغولين بنزقهم وأوجاعهم ونقائصهم. لم أجد تلك البكائيات التي تصاحب حالة الفقر.. ولم أجد كذلك لغة النحيب الذي يجعل الآخرين هم سبب البلاء .كانوا في شارع العطايف يتألقون بحالتهم الإنسانية الخالصة. هذا الانحياز للبعد الإنساني الخالص بماذا تفسره ؟
== أتذكر أول رواية قرأتها للكاتب الجنوب أفريقي(جي أم كوتزييه). روايته( حياة وأوقات مياكل كيه) قرأتها بعد صدورها مباشرة. كان ذلك في منتصف الثمانينيات. الرواية سرد لحياة شخصية اسمها مايكل كيه. في تلك الفترة كان الصراع العنصري في جنوب أفريقيا على أشده على الأرض و في وسائل الإعلام العالمية. انتهيت من قراءة الرواية وأنا لا أعرف هل كان مايكل كيه رجل أسود أم أبيض. كان هدفه بعد موت أمه أن ينقل رماد جثتها إلى موطنها لتدفن هناك( تحت سموات زرقاء نقية) كما يقول. خاض مايكل وأمه (المحمولة في كيس) حربا مع الحرب الأهلية التي قامت على العنصرية. كان لديه هدف أسمى فلم تستطع العنصرية أن تصل إليه. ولم تستطع العنصرية أن تفرض نفسها على الكاتب. عاش البطل ومات دون أن يفصح للقراء عن هويته اللونية. مكثت فترة طويلة أحلل الرواية لأعرف هل كان مايكل أسود أم أبيض. بعد فترة اكتشفت سخف مسعاي. تعلمت من تلك الرواية وروايات أخرى قليلة كيف تكتب الرواية. ليس غريبا بعد ذلك أن تجد أن شخوص شارع العطايف مشغولين بمصائرهم لا بالتفاصيل السياسية أو الأيدلوجية أو حتى الأحقاد العنصرية أو الشخصية.
} تحوير أسماء الأماكن وأسماء الشخصيات هل هي حيلة فنية ام تحايل على المساءلة ؟
== تحوير الأسماء جاء عن تجربة. كتبت قصة قصيرة قبل عشرين سنة تقريبا ونشرتها في مجلة اليمامة. صادف أن اسم البطل يطابق اسم رجل حي ومعروف. فأقام هذا الرجل دعوى ضدي وكسبها. ألزمني القاضي بالاعتذار العلني. كل قرائي يعرفون ما أقصد بخصوص الأمكنة. التحوير ليس معقدا أو صعبا. تحويراتي تسمح لأغبى القراء أن يكون ذكيا.
} الرياض كمدينة سردية كتبت في الكثير الروايات المحلية.. لكنها قدمت كمدينة أسمنتية شخوصها غارقين في الهم البرجوازي.. أنت كتبت الرياض في حالة مغايرة.. كيف ترى الفرق بين ما كتبته وما كتبه الآخرون عن الرياض ؟
== هذه الرياض التي تراها الآن في العمائر والمباني موجودة في ذاكرتي وخبرتي ولكنها ليست في وجداني. لن تصدق. في كل مرة أحلم أي حلم أنقل معي هذا الزمن والأشخاص الذين أحلم بهم إلى بيتنا في شارع العطايف. مازال بيتنا في شارع العطايف مركز أحلامي وأوهامي رغم أنه زال من الوجود مع الأسف. تم تثمينه ثم هدمه. توطاه طريق الملك فهد العملاق. كان هناك فاصل أجنبي بين بيتنا في شارع العطايف وبين حياتي الآن. خرجت من شارع العطايف مع بداية صيف 1976 إلى لندن ولم أره بعد ذلك أبدا. سكنت بعد عودتي إلى الرياض في العليا. فبقيت الرياض القديمة كما كانت في وجداني. هذا الفاصل اللندني شكل جدارا بين الرياض اليوم ورياض شارع العطايف. أشعر في أوقات الصفاء الروحي أنني سافرت من شارع العطايف وبإمكاني أن أعود إليه. رياض اليوم في نظري ليست امتداداً زمنياً لرياض شارع العطايف. هما مكانان مختلفان جغرافيا. أستطيع أن أعود إليه يوماً من الأيام. هناك وسيلتان يمكن أن تأخذاني إلى شارع العطايف وبيتنا هناك: الرواية أو الجنون.
} الشخصيات النسائية في الرواية كانت ذات فعل حتى في حالة انكساراتها كانت تضج بالمواقف الايجابية كحالة معدية وسعاد .كانت كل شخصية تحمل خصوصيتها .كيف ترى صياغة النموذج النسائي في روايتك ؟
== لا أميز بين المرأة وبين الرجل. التجربة الإنسانية تنتهي إلى نفس المصير. مأزق قلقل الوجود واحد. يبدأ الفراق بين الرجل والمرأة عند المستوى الثاني من الحياة. حيث تتدخل الثقافة والاقتصاد وغير ذلك. هنا يبدأ الصراع الطبقي والجندر والعنصري وغيرها من الصراعات. تبدأ السياسة بالعمل. كاتب الرواية الحقيقي لا يزج بروايته في هذا المستوى من الحياة. بالتأكيد سيمر به أثناء السرد ولكنه لا يتوقف عنده. عليه أن يمضي قدما في الكتابة حتى تدخل الشخصيات(رجال أو نساء) مأزق المصير عندئذ تبدأ الرواية بالظهور على الورق. أكبر مأزق أواجهه الآن مع هذه الرواية أن ثلاثة من قرائها المفترضين ماتوا قبل أن تصبح في المكتبات.
} شنغافة في تصوري كان أكثر الشخوص دفئا وكنت أكثر حميمية في توصيفه من الداخل.. هل كنت فعلا تمارس الاحتفاء بهذه الشخصية السردية أثناء الكتابة ؟
== الكاتب الحقيقي يتعاطف مع شخصياته. شخصيات شارع العطايف من قاع الحياة حسب الوصف الطبقي التقليدي. لم أعرض أياً منهم على المثل والأخلاق الخارجية. لم أنقل أياً منهم إلى محكمة الحياة المعاشة يوميا. حتى فطيس المجرم الذي اغتصب الأطفال ودمر حياة كثير من يافعي حلة بن بخيت تركت الحكم عليه للأشخاص الذين آذاهم. علما أن فطيس مجرد شخصية تكنيكية في النص. أتذكر قبل ثلاثين سنة قرأت رواية بعنوان «القصاص». كانت رواية سخيفة بكل المقاييس ولكني تعلمت منها أهم عنصر من عناصر كتابة الرواية. حاولت أن أعرف لماذا هي سخيفة فاكتشفت أن عالم الرواية لا علاقة له بأخلاق الناس في الحياة. الأنظمة والقوانين والأحكام المعمول بها خارج النص الروائي عليها أن تبقى بعيدة عن روايتك. هذا هو السبب الذي أفشل الأدب المرتبط بالايدلوجيا. الأدب الاشتراكي الأدب الإسلامي الخ.
دعني أعطيك مثالا: اللحظة التي سينفذ فيها حكم الإعدام على شخص ما تنفصل عن الوجود الذي تنتسب إليه. تخرج من السياق التاريخي اليومي. مهما كانت جريمة الرجل الذي سينفذ فيه هذا الحكم ستلاحظ أن الناس جميعا يتعاطفون معه في تلك اللحظة. الملايين تعاطفت مع صدام حسين لحظة شنقه. ظن الجميع أن سبب التعاطف يعود إلى أسباب سياسية. هذا غير صحيح. ما حدث هو أن تلك اللحظة المصيرية التي طوي فيها حبل الشنق حول رقبته انفصلت وخرجت من سياقها التاريخي والأخلاقي والسياسي. دخلت مرحلة المصير المشترك. مصير البشر جميعا. هذه هي اللحظة الروائية التي علينا أن نجدها إذا أردنا أن نكتب رواية. شخصيات شارع العطايف عاشت حياتها عند تلك اللحظة المتعالية على التاريخ والأخلاق الأمر الذي يجعل كل قول حولهم يظهر في صورة تعاطف. لو تأملت في حيوات بنات قرندول المسرودة في النص بلسان حسين الآثم. ستحس بروح التعاطف أكثر. تأمل في مبروكة وبنت مستورة وحسين نفسه. تلك المرأتان وذاك الرجل عاشوا في قلب الجحيم. لا تراهم في الرواية يرتكبون الأخطاء ولكنك ستراهم يتقلبون في عذاب الحي المشين.
} رغم أن الأفعال الدونية والشريرة كانت حاضرة لدى اغلب الشخصيات لكن شخصية فطيس كانت تقدم الشر بطريقة مختلفة.. ورغم انه لم يستحوذ على حضور كبير في النص.. إلا انه كان مضيئاً كيف ترى هذا النموذج المغاير في الشر؟
== فطيس لم يكن شريرا.كان فقط في مأزق. كما أننا جميعا في مأزق. أصبح وشما على جسد فطيس. لاحظه لحظة الوداع الأخيرة عندما اكتشف أن التسامح أصبح مستحيلا. فالماضي المشين المكتوب على جسده وجسد فحيج لا يمكن فصله إلا بالدم، لقد انقلبت الأدوار. ما يريده فطيس من فحيج لم يعد موجودا زال مع زوال الجمال والشباب أما ما يريده فحيج فمازال باقيا لأنه مرتبط بالحياة نفسها وبالقيمة المشتركة التي صاغت علاقتهما. قيمة الغدر. جاء فطيس إلى فحيج ليعيد إليه رجولته التي سلبها منه قبل خمسين عاما.حاول الرجلان إقامة علاقة مشتركة حتى على فراش الموت ولكن رائحة الطفل المتعفن في المقبرة كانت تحوم حولهما. كل الأبطال الثلاثة في النص يعانون ما يعانيه فطيس. يعانون من قلقل وجودهم ومصائرهم. عندما تخلص شنغافة من الرق وقع فيما هو أسوء وقع في حرية موحشة. تصور أنك تسير في الشارع لا تعرف إلي أين تذهب. لا يوجد دفء إنساني في انتظارك.لا تجد من تشتكي أو تتوجع ولن تجد دمعة تذرف من أجلك عندما تموت. هذا هو مأزق شنغافة. و سعندي وقع في ورطة أشد من صديقيه. قاده قبحه إلى المكان الأشد ظلمة في الوجود. المكان الذي تهان فيه كرامة البشر. من أسوأ الأشياء في الوجود الإحساس بالقبح. غرق في المستنقع حتى مات بالسفلس. استعار مصير حبيبته. ليهوي معها في نفس الجحيم. إذا فطيس لم يكن وحيدا في المأزق. الجميع يشاركونه نفس المصير.
} هل كتبت الرواية وفي ذهنيتك أن تتحول إلى عمل سينمائي.. التكنيك الذي تم الاشتغال عليه في الرواية يوحي بهذا التصور؟
== الرواية في العالم استعارت كثيرا من تكنيك السينما. خصوصا الفلاش باك. في السبعينات كان معظم الكتاب الأمريكان يعمدون إلى كتابة رواياتهم بصورة تكون فيها جاهزة لتصبح فيلما سينمائيا. أنا في وضع مختلف عن الأمريكان. لا يمكن أن أفكر في السينما. لسبب بسيط واحد. لا يوجد لدينا سينما تحرضني. لكن علي أن أقول إن الأشكال السردية تتداخل في الشكل الظاهري لكن ليس على مستوى الخطاب. ما تكتبه بالقلم لا يمكن أن تكتبه بالكاميرا. لقد جربت الكتابة للكاميرا. الكاميرا تقدم جملاً مبنية بطريقة مختلفة. المشترك الوحيد بين السينما والرواية هو الحكاية. عليك أن تتذكر أن الحكاية مجرد حيلة لبناء السرد. ما يمكن نقله من الرواية إلى السينما أو إلى الدراما التلفزيونية هو الحكاية. أما العرض(representation ) فلا يمكن نقله. اللغة هي المادة الأساسية التي تقوم عليها الرواية بينما قيمتها أقرب إلى الصفر في النص التلفزيوني والسينمائي. لا أريد أن أرى «شارع العطايف» قريبا على شاشات السينما أو التلفزيون. أتذكر كلاماً للروائي الكولومبي ماركيز. يقول ما معناه أن تحويل النص الروائي إلى سينما يلغى لا نهائية تخيل الشخوص الروائية. بعد مشاهدة الفيلم يتفق جميع القراء في العالم على صورة واحدة للشخصية الروائية. لا شك أنت وأنا والقراء جميعا بنينا صوراً مختلفة لبطل رواية العطر تقوم على أمزجتنا الشخصية. بعد ظهور الفيلم استطاع المخرج أن يحشرنا في صورة البطل الذي اختارها. قس على ذلك الأمكنة والأزمنة. الفيلم خيال المخرج المتجمد أما الرواية فهي خيال متجدد مع كل قراءة. إذا قرأ شارع العطايف رجل صيني فسوف يخترع شارع عطايف صيني وإذا قرأها دنمركي فسوف يخترع شارع عطايف دنمركي بينما في الفيلم سيتفق كل العالم على الصورة التي اخترعها المخرج وتنتهي عملية التخيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.