لا يزال بعض من رموز الثقافة السعودية المحدثين وتلامذتهم المتنورين بأفكارهم ينظرون بريبة مصطنعة إلى الآداب الشعبية بصفة عامة.. وكأنهم يعتبرون صفة الشعبية التي لا يتمتعون بها عار وشنار وخراب ديار في حين أنهم يلهثون إليها في غمار النخبوية، ولكنهم لا يدركونها على الرغم من اكتساحهم الإعلام المقروء والمرئي والمسموع ومواقع التواصل الاجتماعي. ففي حين نجد أن أباطرة المستشرقين وعمالقة الثقافة في العراق وعباقرة الكلمة في مصر والشام وجيل الرواد من مثقفي السعودية كتبوا وألفوا ودرسوا وتعمقوا في الآداب الشعبية ولم يستعيبوا ذلك بل سعوا إلى توثيقها ودراستها وجمع نوادرها والبحث عن شواردها، ولكن خرج بعض المحدثين المترعين برطانة الإفرنج شاجبين ومستنكرين الاهتمام بآداب التخلف - كما يزعمون - التي تضرب لغة القرآن في صميم مقتلها، وغالبهم قد تخصص في اللغة العربية في بلاد الغرب على يد (خواجة) لا ينطق الضاد حتى لو ألصق لسانه أو دبّس تدبيساً في أصل ثنيتيه العلويتين؛ فما بالك بالحاء والعين التي تحتاج إلى تركيب مرشح في أقصى الحلق!. ومنهم من تشرب هذه الرطانة لدرجة أنه عندما ترجم بعض الكتب من الإنكليزية إلى العربية جعل ال (H) هاء ولم يكتبها حاء في اسم (محماس) فأصبح (مهماس) ومن فرط إعجابه بنفسه أشار في الحاشية:(من الهمس)! وصاحبه الآخر جعل ال (A) همزة ولم يكتبها عيناً في (عباس) ليصبح (أباس) وهنا يشعر القارئ أن عباس فعلاً استخدم تكتيكاً آخر! أما صديقنا (عطية) فتحول بقدرة قادر إلى (أتية)!! ومن يحضر فعاليات ونشاطات الأندية الأدبية التي هي من معاقل النخب المثقفة يستطيع غالباً أن يحصي عدد حضورها على أصابع اليدين، ما لم يتم استعطاف أحد أصحاب المكانة للتشريف لعله يجلب معه الجماهير الغائبة التي عجزت هذه الأندية عن الوصول إليها، فهل في هذا النهج انتماء إلى ثقافة عميقة، بل يتم أحياناً اختلاق مناسبة من دون مناسبة لأجل هذا (البريستيج) الدعائي العجيب!! وفي نفس الوقت تجد عدد حضور أمسية للشعر الشعبي بالآلاف! وحين تتناقش مع أحد هؤلاء النخبويين الذين يتنفسون تحت الماء ولكنهم لا يغرقون - سبحان الله - يقول: هكذا الغوغاء في كل زمان ومكان!!! فإذا كانت النخب لا تدرك سلوك الجماهير ولا ترغب في التأثير فيها ولا القرب منها فإن تقوقعها في أبراجها العاجية وعدم فهمها للمجتمع يعني أنه لا قيمة حقيقية للثقافة ولا لأي ثقافة تتهرب من واقعها وبيئتها وأهلها إلى تدوير المطابع لتسجيل حضورها من دون أن تمد يدها إلى أولئك ليلتهموا ثمرات المطابع بإقناعهم بمحتواها المفيد حتى لا تكون طعاماً لدودة الأرض في مستودعات الأندية وربما طمرتها تسربات المياه من الأمطار أو غير الأمطار. من هنا فإن اتجاه الأندية الأدبية إلى الصحراء وثقافتها وتماهيها مع الثقافة التقليدية ودراساتها أمر لا يؤثر في مكانتها ولا يقلل من شأنها بل يساعدها على تشكيل الوعي الجمعي، فهل سيتحول الأديب العظيم إلى أحد الرعاع حينما يوقد ناراً في رمث التسرير ويحلب ناقة ملحاء؟! أم أن ذلك سيجرثم جهازيه التنفسي والهضمي؟! فإذا علمنا أن أول محاضرة للصويان في الأدب الشعبي كانت في أحد الأندية الأدبية - كما نبهني أحد أساتذتي - وكذلك كانت أول أمسية شعرية للأمير خالد الفيصل فيحق لنا أن نتساءل عن سر التحول الأخير؟! وأخيراً فإن الأدب العربي كل لا يتجزأ وحين نطالب بالاهتمام بالآداب الشعبية ودراسة الثقافة التقليدية نعلم علم اليقين أن الدارس للشعر الجاهلي اليوم لن يستوعبه كما يجب ما لم يلم بطرف من هذه الآداب! ولكن أرجو أن لا يفسر كلامي بأنه دعوة إلى العامية أو محاربة اللغة العربية الفصحى فإن آفة الفهم السقيم تجتاح الأخضر واليابس.