واسع هو الأفق الذي تصبوه (ليلى عساف) فبعد كتابي الشعر (ظل لا يذوب) عن دار الحمراء وربيع تباغتنا عن (دار بيسان) انغمرت في رحلة صيد لمناخ لبناني تشعر بأنه يتهاوى حولها. وهل حقا أن الحياة هي رحلة صيد كي تعنون كتابها "صيد الحياة"؟ وطوال صفحاته ال 180 تكابد ولادات متعددة، وعمليات كر وفر ومخاتلة من ذاكرة الحرب، التي قلما ينجو منها فنان لبناني، باللوعة ذاتها، بالرعب ذاته بالمرارة ذاتها.. من دون أن ينتاب الكلام السردية الأفقية الباردة. لغة القصائد مكتفية بذاتها وأدواتها، مطمئنة أو هكذا تبدو متمالكة أنفاسها متماسكة حول حرقتها رغم المرارة التي يغطس بها القلب، مشاهد من تفاصيل حياة يومية اجتاحتها الحرب ومن خلالها تنتشل الحياة لتضعها في مأمن من غدر الزمن ولا يكون ذلك إلا بالشعر إذ تستطيع الركض داخل المخيلة وتجد الكائنات تتحدث بشغف وحب ورفض متواصل لطقس القتل. (تحية إلى بطيخة تصبغ بالأخضر الناصع رفأ بجوار مغسلة عديمة المعنى) مشهد 31 مفردات تستحيل أصابع تجمع استغاثات الذين يريدون العيش بسلام.. كأنها تعد على أصابع اليد أحزانهم وخيباتهم فتحيل المشاهد بوحا من وراء الصوت، قصيدة لا تنتهي في محطة لكنها تقف في انتظار مرير لما سيأتي والمدافع تقصف وحقيبة السفر تختصر الوطن، نرحل بعيدا في ثنايا المشهد الذي يبدأ باليومي العادي لينتهي كالسحر، كالحب من أول نظرة. بعد ساعتين كاملتين من القصف سكتت كل المدافع، الصمت كان أبيض مثل اللبنة التي تقطعها أمي/ في كيس معلق على خنقية مازالت تنقط بنبض لم نسمع مثله من قبل. في أقصى البوح قد تصيبه قذيفة فينثر الدمع والدم، وقد تحتفل الكائنات بلحظة سلام فتفوح رائحة الزعتر والليمون. تزدحم المشاهد بالتفاصيل اليومية الصغيرة التي تقود القارئ إلى حياة أخرى وكأن الحياة لا توجد إلا في تفاصيلها، كما أن المشاهد لا تتوقف عند التلكوء طرقات العين بل تجتاح مناطق في الخيال لا يقطنها أحد.. الإعلاء من شأن اليومي ولصق الحياة به، لا توجد حياة إلا في التفاصيل، فالحياة اليومية تلقح التاريخ وتجعله متحركا. الناس العاديون هم صانعو تفاصيل لحظة مصيرية "تجد نفسك محشورا في الزاوية الخانقة أو تحت الدرابزين أو بجوار مغسلة أو وراء الباب ليأتيك القتل من وراء الظهر "ماذا كانت تفعل طفلة قبل أن تصل القذيفة إلى سريرها؟ ما نوع الدمية التي كان يلعب بها الطفل قبل أن ينام إلى الأبد.. ما مقادير الطبخة التي كانت تعدها الأم قبل لحظة القصف بقليل.. كيف كانت بيوتهم؟ صور مملوءة بالحياة بسبب امتلائها بالتفاصيل الصغيرة وذلك ما يجعلها أحيانا مفعمة بالألم، إنها تسرد وباختصار شديد ما يحدث في الحروب المعاصرة والحرب اللبنانية خاصة (المكان، الجو، المشاعر) التي عاشها كل هؤلاء قبل أن يلاقوا حتفهم. ونتسائل هل ينجح القاتل دائما في القتل؟ هل يستطيع الشعر أن يمنع انهيار الجسم وتشظيه؟ إلى متى يقتلون على حافة الغفلة - الانفجار الذي يقطع الوقت إربا ويدفعنا إلى العتمة. وتبقى الكتابة وسيلتها الوحيدة لمواجهة الحرب التي تصفها بقدر ما تشير إلى وجعها.