قال أحد شعراء الفصحى يعاتب من يحب: ما لي مرضت فلم يعدني عائد منكم ويمرض كلبكم فأعود؟ وأشد من مرضي علي صدودكم وصدود عبدكم علي شديد يبدو أن هذا الشاعر أحب من ليست من طبقته، فهو المولع الفقير الذي لا يتطلع لغير محادثة عبدها عله يسمع من أخبارها ما يسره، وكغيره من المحبين الواهمين كان يتطلع لإشفاقها أسوة بما يجد من تعلق بها، فادعى المرض عله يحظى بزيارتها له، للاطمئنان عليه، ولكنها لم تجد له بذلك، هل حالت أسباب دون ذلك أم أنه حب شاعر؟ يقتطف منه جميل التعبير عن جمال المحبوبة وعذاب الشاعر الذي يشعل القريحة فيحترق احتراق الصندل لتضوع رائحته ويفنى العود. وبناء على ما يكن وجدانه من حب، وما يعانى من ألم عاتبها وكان موقنا بأنها تشاركه اللوعة والألم لمرضه، كيف لا وهو الذي لا يكف عن عيادتها عندما يمرض كلبها، وهو الذي يجد لوعة شديدة عندما لا يواصله عبدها. هذه حال المحبين: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها وأشد أنواع المحبة ألماً ما كان نقياً، بعيدا عن المصالح الذاتية وصعب المنال، وبه من اللعب بمشاعر الآخر ما يولد الألم ويزيد من التعلق والتلذذ بذلك وانكار الظن بالتلويع. وقد يكتفى المحب بما اكتفى به جميل بثينة منها: وإني لأرضى من بثينة بالذي لو ابصره الواشي لقرت بلابله بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضى أواخره لا نلتقى وأوائله هكذا يكون الحب العذري. وقد يكون المحب غير منصف حين لا يعذر من لا يستطيع الإبانة عن مكنونات وجدانه لأسباب اجتماعية يجدها قاهرة ولا مجال لتجاوزها، مثل ما حدث لشاعر من أهل الخليج أحب فتاة وأحبته وعندما مرض لم يعد يمارس حياته الاجتماعية حتى تراه فاحتضنه المستشفى، وأخذت الفتاة تتلقف أخباره بواسطة الصبية الذين لا يفطنون لأبعاد ما يجري من أحاديثها معهم وهي تلتقي بهم يوميا عند داره، والشاعر يضيق ذرعاً بعدم سؤالها عنه فقال على نهج المواويل الخليجية: من طحت ميهود ما مروا عليّه أحد حتى الحسب والنسب الكل مر وجحد الله لا قرا سورة قريش وقل هو الله أحد إن قمت من طيحتي ما عاد أعرف أحد وعندما سمعت هذه الأبيات أجابت: أمر بالدار حجّة وانت مقصودي والنار في ضامري كالنار في العودِ وحياة منشي السحاب ودارز العودِ مخلوق لو ينعبد كان انت معبودي وقد صدقت لا يمكن ولا تصح عبادة المخلوق مهما بلغ من مودته، وبهذا نلمس الصدق في الرد والتجني في العتاب. وكثير من الناس من لا يهب المشاعر الودية قدرها مهما احترق من لوعتها، فكان الله في عون المحبين، وعصمهم من الخطل. يذكر المعدان المحققان على الفياض وعلي المناعي في كتابهما «ذاكرة الذخيرة» من رواية على المهندي كثيراً من الأحداث والاشعار القديمة عن منطقة «الذخيرة» في قطر، يذكران أن الشاعر المشهور محمد الفيحاني مرض وأدخل المستشفى الأمريكي في البحرين، وتذكر من يحب خلف جبل الغارية وأنه قبل السفر إلى البحرين لم يغادرر دياره قبل أن يرى من يحب: ما سمح قلبي يروح ولايرى زَوْل محبوبه ولو هو من بعيد لو يبين من الجبل لي من ورا ديرته تطفي ضمير به وقيد آه وا ويلاه يا ليته درى كيف وده في حشا روحى يزيد أو درى انى منه حالي قد برى ذايب قلبي بعد ما هو حديد واننى في البعد ناصي المقبرا يحفرونه لي وموقن بالوعيد ثم يوصي ذويه بالعناية بقبره ووضع علامة بارزة عليه ليعرفه الحبيب لو كتب له زيارته: حط من فوق القبر حتى يرى بنيتين كالنصايب له شهيد يعرفون القبر من جا ينظرا يعرفونه قبر مذبوح الوديد قبر من صان المودة واسترا قبر من لا خان عهدٍ للعهيد من صبر للحب حتى بتَّرا زرع قلبه واتركه حبٍ حصيد إلى قوله من القصيدة الرثائية: كيف اجل لو مات وانا له أرى كان طريت السلب طر العنيد واحترق قلبي بعد ما قد ورى شبه نار كنّها نار الوعيد والشعراء يبدعون حين يصدقون في تعبيرهم وتجسيد معاناتهم، ويفرون سواهم حينما يحلمون ويحبون إغاظة سواهم من وصف التلذذ بملاقاة من يحبون، وذلك التعبير أكثره من نسيج الخيال. والذي يؤكد لنا ذلك صرامة المجتمع وضوابطه الاجتماعية، والرقابة الذاتية التي يمارسها المرء على نفسه ليقينه بسوء المنقلب في مجتمعه أولا عقابا أو سمعة وكلاهما أمر يصعب احتماله، فأقرب ما يكون للمبالغة في الوصف أن ذلك يعود إلى الآمال والاحلام والتصورات ليس إلا، وندر أن يخضع الحرائر والأحرار لهوى النفس. والأدب العالمي مليء بمثل ذلك. ثم أن المجتمع الواحد في القرية أو البادية متماسك ويعرف كل فرد فيه الآخرين فكيف للمرء أن ينفذ من تقاليده، لا سيما وأن أكثر الشعراء المبدعين الذين تناقل الناس أشعارهم لهم حضور مع الأعيان ويشار إليهم بالبنان مما يجعلنا نبعد عنهم انهم يقولون ما يفعلون. هذا من جانب سطوة التقاليد وضوابط المجتمع فكيف إذا كان المجتمع مسلماً فإنه يكتسب حصانة مثلى. والله المستعان