سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
جروح قلبي به جديدات وعتاق من مترف زينه على البيض فارق (محمد السديري) جربتُ من نار الهوى ما تنطفي نار الغضى وتكلُّ عمّا تُحرقُ (أبو الطيب المتنبي) شكوى المحبين في الشعر الفصيح والشعبي..
شكوى العشاق من الحب والحبيب أشبه ما تكون بشكوى الأم من طفلها الشقي.. فهي تشكو منه وهو أحبُّ الناس إليها، وأقربهم إلى قلبها، وتُعلن أنه أتعبها وهو أغلى ما في الوجود عندها وأحلى ما تقع عليه عيناها.. اللذة في الحب ممزوجة بالألم، والرضا يتعانق مع الشكوى، فالمحب يريد من حبيبه كل شيء والحبيب ليس على هواه، وحتى لو صادف هوى العاشق هوى معشوقه فإن الظروف قد تنكل وتحول بين تحقيق المراد فيجأر الطرفان بالشكوى.. والعشاق يشتكون من كل شيء: من الصدود والتمنع والرقيب وثقل الحبيب وقساوة الظروف، ويشكون من القلق والأرق والنار التي تتأجج في الضلوع، يقول أبو الطيب المتنبي: «أَرَقٌ على أرقٍ ومثلي يأرَقُ وجوى يزيد وعَبْرَةٌ تترقرقُ جهد الصبابة أن تكون كما أرى عينٌ مُسهَّدة وقلبٌ يخفق ما لاح برق أو ترنَّم طائرٌ إلا انثنيتُ ولي فؤادٌ شيِّقٌ جرَّبتُ من نار الهوى ما تنطفي نار الغضى وتكلُّ عمَّا تُحْرق وعذلت أهل العشق حتى ذقُته فعجبت كيف يموت من لا يعشق!» ولا ندري أقال المتنبي هذه الأبيات جرياً على عادة الشعراء في التغزل أم أنه ذاق نار الهوى فعلاً.. يقال إنه كان يحب (خولة) أخت سيف الدولة الحمداني وهو قول ليس بعيداً عن الصواب، فقد رثاها حين علم بوفاتها، وكان في العراق وهي في حلب، رثاءً حاراً لا يصدر إلا عن عاطفة صادقة: «طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذِبِ حتى إذا لم يدع لي صَدقة أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي تَعثَّرت بِه في الأفواه أَلْسُنُها والبُرْدُ في الطرْقِ والاقلام في الكُتبِ أرى العراق طويل الليل مُذْ نُعيت فكيف ليلُ فتى الفتيان في حلب؟ يظن أن فؤادي غير ملتهب وأن دمع جفوني غير مُنسكِب..» وأنا أظن أنه لو مات سيف الدولة نفسه لما رثاه المتنبي بهذه الحرارة.. الغالب أن المتنبي كان يعشقها وقد وصفها بالجمال حتى وهو يرثيها - وهذا عابه النقاد عليه - ولماذا لا يعشق المتنبي وشاعريته تملأ الفضاء؟ وعوداً على شكوى العشاق فإنها تجعلنا نشعر أن الحب يلسع القلب بقوة، ويجلب الهم بقسوة، وقد نتفنن في تعذيب أصحابه وتذويب قلوبهم في نيرانه كما عبر الشاعر القديم: «رأيتُ الحب نيراناً تلظّى قلوب العاشقين لها وقود فلو فنيت إذا احترقت لهانت ولكن كلما نضجت تعود كأهل لظى إذا نضجت جلود أُعِدَّت للشقاء لهم جلود أعوذ بالله! يقول المثل العربي «أشقى من مُحب!» ويقول ابن القيِّم رحمه الله: «يكفي من مضرة العشق ما اشتهر من مصارع العشاق» ويقول «الكآبة تتولد من حصول الحب وفوات المحبوب» و«الحب هو الداء الدويّ الذي تذوب معه الأرواح ولا يقع معه الارتياح» وسأل الجاحظ أعرابية عاشقة عن الهوى فقالت: - هو الهوان غُلطَ في اسمه.. وللشاعر عروة بن أُذينة: «إذا وجدت أُوار الحُبِّ في كَبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترِدُ هبني بردت ببْردِ الماءِ ظاهرهُ فمن لنارٍ على الأحشاد تتَّقِدُ» فالحب الصادق المتمكن مع الحرمان فرن موقد، وكلما زاد الحب زاد الألم والعذاب.. وشاعرنا ابن لعبون يصور لنا عشقه بأنه صار كالمجنون، وأصابه حزن يعقوب رغم أن له صبر أيوب: «قال الذي هيضه رعبوب حطّ الجفا دوبه ودوبي ميّاس لأهل الهوى محبوب هرجه عجاريف وعجوب خده سواة الفز مشبوب شفته ضحى مرّ من صوبي والجِيْد جِيد المها مسلوب والعين يا عين الاشبوب خلتني اركض لها والوب مثل المهيبيل واهوبي يالايمي صدها ما هوب رمح اتلقاه بجنوبي صبري بلواي صبر ايوب واحزاني احزان يعقوب» ويكثر في شعرنا الشعبي التعبير عن الشكوى من الحب بعبارة (ياتل قلبي..) أو (يا وجودي..) مشتقة من الوجد وهو الحزن والفقد.. وللشاعر محمد بن أحمد السديري: «عِزِّي لمن مثلي من الحب منصاب تارد عليه هموم قلبه زعاجيل اليّا رقا مرقاب ناداه مرقاب بمفارق الخلان شاف الغرابيل وزعاجيل: متواترة قاسية. وله - رحمه الله -: «الله من قلبٍ يزيد ارتهاجه يلعب به الهاجوس مع كل فجِّ كنّه على موج البحر فوق ساجه بعواصف منها البحر مستلجِّ الدمع من عيني يزيز انزعاجه يشدي هماليل السحاب المحجِّي على عشيرٍ صار للقلب حاجه متولعٍ به عنه ما يسجِّي»