تفوح رائحة الشوق والحنين من المحبين كما تفوح روائح العود الأصيل إذا توهجت تحته النار وأحرقته بالتدريج.. إن العاشق يضنيه الشوق والحنين إمَّا مع الفراق أو مع اللقاء المصحوب بالحرمان، حتى يلح الشوق في قلبه كأنما يُصَفِّق بأجنحة طائر، وحتى يفصح الحنينُ في صدره فهو يحن حنين البكر شُدَّ خناقها.. بل إن العاشق الولهان يشتاق لمحبوبه وهو بقربه.. ومعه.. وبين يديه.. تقول ثريا قابل بلهجتها الحجازية الحلوة: توحشني وإنت بجنبي واشتاق لك لو تغيب فالوحشة تعني الفقد المصحوب بالشوق، فكأنما تخشى فراقه قبل الفراق، وتتمثل جمال هذا الحضور فتتصور فقدانه، لينطبق عليها وعلى كل عاشق صادق قول الشاعر: فما في الأرضِ أشقى من مُحِبّ وإن وجد الهوى عَذّبَ المذاقِ تراه باكياً في كل وقتٍ مخافة فرقة أو لاشتياقِ فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا خوف الفراقِ فتسخن عينُهُ عند التنائي وتسخن عينه عند التلاقي ومع ذلك فليس هذا صحيحاً على إطلاقه، ففي الحب لذة، وفي الحرمان إسعار لنار الحب، فالوصال الدائم يقتل الحب.. فما هو.. أي الحب.. إلا رجل وامرأة وإعجاب وحرمان.. والفراق يقتل الحب التافه ويحيي الحب العظيم، فهو الفيصل بما يدع من أثر، فإن كانت السلوى والنسيان واستبدال المحبوب بآخر فهو حب تافه.. نزوة.. وإن كان الأثر حنيناً وأشواقاً وتذكراً دائماً للحبيب فهو ذلك الحب الصادق العظيم.. وهو ما ينطبق على شاعر عاشق كعروة بن حزام حين قال: «على كبدي من حب عفراء قرحة وعيناي من وجد بها تكفان هوى ناقتي خلفي، وقدامي الهوى وإني واياها لمختلفان متى تجمعي شوقي وشوقك تظلعي ومالك بالعبء الثقيل يدان فيا ليت كل اثنين بينهما هوى من الناس والأنعام يلتقيان فيقضي حبيب من حبيب لبانة ويرعاهما ربي فلا يُريان» * وقيس بن الملوح: «أمر علي الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وأبو صخر الهذلي: هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى وزرتكِ حتى قلتِ ليس له صبر! صدقتِ أنا الصَّبُّ المصاب الذي به تباريح حب خامر القلب أو سحر وإني لتعروني لذكرك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر» وأبو مرة المكي: «أضعف وجدي وزاد في سقمي أن لست أشكو الهوى إلى أحد جعلت كفي على فؤادي من حر الهوى وانطويت فوق يدي كأن قلبي إذا ذكرتكم فريسة بين ساعدي أسد يدي بحبل الهوى معلقة فإن قطعت الهوى قطعت يدي!» وقول الشاعر النجدي: «أقول لصاحبي بأرض نجد وجد مسيرنا ودنا الطريق أرى قلبي سينقطع اشتياقاً وأحزاناً وما انقطع الطريق» * وفي شعرنا الشعبي يكثر الشوق والحنين، وخاصة في الشعر القديم، وله مفردات خاصة تدل عليه، أي تدل على شدة الوجد والشوق والحنين، منها يا وجودي على..» بمعنى يا وجدي عليه.. و«يا تل قلبي تل..» ثم يصف الشاعر شيئاً يجر بعنف، كل هذا في الدلالة على شدة الشوق والتحرق، و(تلة) بمعنى جذبه بشدة، وهي لفظة يستعملها ابن سبيل كثيراً، وغيره من الشعراء.. * قال ابن سبيل بشوق لأصحابه المفارقين: «يا تل قلبي تلة الغرب لرشاه على زعاع حايل صدرت به» * وربما استخدموا (ألم الكبد) دليلاً على الشوق كقول ابن سبيل أيضاً: «عرقا على كبدي وسيمة مزينه عرقات والحقها ثلاث المغيبي» ويأتي التعبير عن الحنين بصيغة (النداء - يا من لقلب) كقول زعيمان: «يا من لقلب حب وبه الهوى هبّ زاد التهابه يوم هب الهوى به» و(جرح القلب) كناية عن شدة الشوق والحب كقول سليمان بن شريم: «قلبي رعاه الدوب والجسم منعوب جرحه مخاوٍ به من أول شبابه ومن الولع يكفخ كما الطير مقضوب وإلى طرا له طاري ما حكى به» وفي البيت الثاني صورة فنية لشدة الشوق، ولكتمان الحب والحزن (وأقتل الحزن دفينه».. * وابن لعبون من أكثر شعرائنا شوقاً وحنيناً لمحبوبته (مي) وقد عرفهامراهقاً وهام بهاشاباً ثم افترقا فظل يتذكرها بحنين شديد حتى مات وهو في الأربعين.. وقد أحيا ابن لعبون شعر الأطلال والوقوف على الديار لكثرة وقوفه على ديار مي وأطلالها وبكائه هناك، وهو يذكرنا بذي الرمة الذي أحب فتاة اسمها (مي) أيضاً وظل يبكي على أطلالها حتى مات وعمره يقارب عمر شاعرنا الشعبي ابن لعبون.. والأخير يستخدم عبارات مؤثرة في الدلالة على الحنين مثل (فز قلبي..) في قوله: «ألا يا بارق يوضي جناحه شمال وابعد الخلان عني على دار بشرقي البراحه أقفزت ما بها كود الهبني يفز القلب فيها للصباحه إلي قامت حمامتها تغني توصيني لأهلها بالنياحه يعودان الحمامه خير مني» ويصور لوعته حين يرى منازل (مي) خالية: «حي المنازل تحية عين لمصافح النوم سهرانه والاّ تحية غريم الدَّين معسر ووفاه ديانه ودي بنسيانها ومن أين ينسى محمد لخلانه» ويقول: «صوت على الفرقى بليل لعى به والبرق مثل كفوف دقاقة الدار يقديك مرة، ومرة تقتدي به كنك غرير بالمنازل ومحتار ولا أظنك أول من تزايد نحيبه شفق على ذيك المنازل بتذكار منازل توري الحبيب لحبيبه يا ما قضى المشتاق منهن الأوطار»