هل يتجه مجلس الأمن الدولي لإصدار قرار بإرسال قوات حفظ سلام أممية إلى جمهورية مالي، لتحل محل القوات الفرنسية، التي أكدت أنها بصدد المغادرة خلال وقت قصير؟.. وهل تكون قوات حفظ السلام المقترحة بديلاً عن الخطة الأفريقية، التي أجازها مجلس الأمن، والقاضية بإرسال نحو ثمانية آلاف جندي إلى شمال البلاد؟. نجح هجوم بري وجوي فرنسي، استمر ثلاثة أسابيع، في طرد المجموعات المسلحة من مدن وبلدات شمال مالي. وهو ما يعني انتهاء المرحلة الأولى من العملية العسكرية. وتدخلت فرنسا، في 11 كانون الثاني يناير 2013، إلى جانب ما تبقى من الجيش المالي، ضد المجموعات المسلحة، من أجل منع تقدم هذه المجموعات إلى الجنوب، أو حتى وصولها إلى العاصمة باماكو. وقد دمرت الهجمات الجوية الفرنسية معسكرات التدريب، وقواعد الإمداد والتموين، الخاصة بهذه المجموعات. وسبق أن نفذ الفرنسيون 46 تدخلاً في مستعمراتهم الأفريقية السابقة، ما بين عامي 1960 و2005، إلا أن نتائج هذه التدخلات تباينت من حالة إلى أخرى. وجاءت أولى التطورات الرئيسية في مسار العملية الفرنسية في جمهورية مالي في استعادة مدينة غاو، إحدى المدن الرئيسية الثلاث في شمال البلاد. وأعقب استعادة غاو وصول القوات التشادية والنيجيرية جواً، قادمة من نيامي، لضمان أمن المدينة. وهي عملية لا يرغب الجيش الفرنسي في تنفيذها في المدن التي استعادها. المدينة الرئيسة الثانية التي استعادتها القوات الفرنسية هي تمبكتو، التي تعتبر أهم مدن الشمال المالي. ولهذه المدينة تاريخ حضاري مشهود. وكانت مركزاً للعلوم الإسلامية في غرب أفريقيا. وظلت تحوي عدداً كبيراً من المعالم والذخائر والمخطوطات الإسلامية. وقبل السيطرة على تمبكتو، قام العسكريون الفرنسيون والماليون بمناورة مشتركة، برية وجوية، مع هبوط مظليين للسيطرة على منافذ هذه المدينة، الواقعة على بعد 900 كيلومتر شمال شرق العاصمة المالية باماكو. ثم دخلها رتل من الجنود الفرنسيين والماليين. وبعد غاو وتمبكتو، توجهت الأنظار إلى كيدال، الواقعة في أقصى شمال شرق مالي، بالقرب من الحدود الجزائرية. وتعتبر هذه المدينة ثالث كبرى مدن الشمال، وهي تبعد مسافة 1500 كيلومتراً من باماكو. وكان مسلحون طوارق من الحركة الوطنية لتحرير أزواد، ومنشقون عن مجموعة إسلامية، قد أعلنوا استعادتهم لهذه المدينة من جماعة أنصار الدين. وفي الثلاثين من كانون الثاني يناير 2013، سيطرت القوات الفرنسية رسمياً على كيدال. وفي أول شباط فبراير، كان في مالي حوالي 3500 جندي فرنسي و1900 جندي أفريقي، ولا سيما من تشاد والنيجر. ويتوقع وصول آلاف الجنود الأفارقة إلى البلاد، إلا أن وصولهم ما ازال بطيئاً، بسبب مشاكل مالية ولوجستية كبرى. وقد قرر رؤساء أركان دول غرب أفريقيا، في 26 كانون الثاني يناير 2013، رفع عدد الجنود الذين ينوون إرسالهم إلى 7500 جندي. ومستقبلاً، قد يتحول الصراع إلى حرب عصابات طويلة الأمد، مع جماعات صغيرة من المسلحين الذين يشنون هجمات متقطعة. ويخشى البعض بأنه قد لا توجد لدى الفرنسيين إستراتيجية واضحة للخروج من مالي مع ظهور مخاوف من نشوء أفغانستان جديدة، خاصة وأن الحكومة المالية ضعيفة وجيشها يفتقر للتنظيم، وإن قوات التدخل الأفريقية ليست جاهزة حتى اليوم. وقال زعيم اليمين المحافظ، جين فرانسوا كوبي، خلال نقاش بالجمعية الوطنية الفرنسية، إنه ورفاقه بالمعارضة قلقون من أن فرنسا تقاتل وحدها على الأرض، رغم الخطط الخاصة بإشراك قوة أفريقية، ووعود التدريب التي قدمها الاتحاد الأوروبي. ومن المقرر أن تسلم فرنسا المهمة العسكرية تدريجياً إما إلى قوة أممية لحفظ السلام، أو قوة أفريقية مفوضة من الأممالمتحدة، قدر تعدادها بحوالي ثمانية آلاف جندي. وفي موقف لافت، ذكرت وزارة الخارجية الأميركية فرنسا بأن النزاع في مالي يجب أن يحل سياسياً أيضاً. وقالت المتحدثة باسم الوزارة، فيكتوريا نولاند، أن "مشاكل مالي يجب أن تجد حلاً لا يكون أمنياً محضاً. ويجب أن يكون في موازاة أي طريق أمني طريق سياسي. وإن العودة إلى الاستقرار في مالي تتطلب إجراء انتخابات جديدة تغير نتيجة الانقلاب العسكري"، الذي جرى في آذار مارس من العام 2012. أما فرنسا ذاتها، فقد أعلنت أنه يتعين على حكومة مالي الانتقالية أن تبدأ على الفور محادثات مع ممثلين للسكان في شمال البلاد، بما في ذلك الجماعات المسلحة، التي تعترف بوحدة أراضي الدولة. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية، فيليب لاليو: "الحوار بين الشمال والجنوب هو السبيل الوحيد الذي سيجعل بالإمكان عودة الدولة المالية في شمال البلاد". ورحب لاليو بتبني البرلمان المالي لخارطة طريق سياسية لمرحلة ما بعد الحرب. وقال: "يجب التقدم الآن بشكل ملموس" في العملية السياسية. وفي 31 كانون الثاني يناير 2013، عرض رئيس مالي المؤقت، ديونكوندا تراوري، إجراء محادثات مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد، في مسعى لتحقيق المصالحة الوطنية. وقال تراوري لراديو فرنسا الدولي: "الجماعة الوحيدة التي يمكن أن نفكر في التفاوض معها اليوم هي الحركة الوطنية لتحرير أزواد. لكن بالطبع شرط أن تتخلى عن أي مزاعم تتعلق بمطالب إقليمية"، مستبعداً إجراء أي محادثات مع أي جماعة إسلامية. في هذه الأثناء، حذرت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، الغامبية فاتو بنسودة، جمهورية مالي من أية أعمال انتقامية قد يرتكبها الجنود في شمال البلاد، أو أية انتهاكات قد تمارس بحق سكان المدن التي جرت استعادتها. وطالبت بفتح تحقيق في المزاعم المتعلقة بتجاوزات جرى التبليغ عنها. ومن ناحيته، دعا رئيس الوزراء الفرنسي، جان مارك ايرولت، إلى "نشر مراقبين دوليين بسرعة" من أجل السهر على "احترام حقوق الإنسان" في شمال مالي. ويخشى الفرنسيون من أن تقضي الانتهاكات التي يرتكبها الجيش المالي على التأييد المحلي لتدخلهم العسكري. وتنتابهم خشية من أن تجد قواتهم نفسها وسط توترات متنامية بين الطوارق، سكان الشمال، وزنوج مالي في الجنوب، الذين يديرون البلاد والجيش. وعلى الصعيد السياسي، جددت باريس ضغوطها على مجلس الأمن الدولي كي يوافق على تشكيل قوة أممية لحفظ السلام في مالي، وسط مخاوف تتعلق بتمويل القوة الأفريقية وتسليحها وقيادتها. وكان مجلس الأمن قد رفض تشكيل مثل هذه القوة، قبل أن يحدث فجأة التدخل الفرنسي في مالي. بيد أن استعادة مدن شمال البلاد من المجموعات المسلحة قد أعاد إحياء هذه الفكرة، وجعلها أكثر قبولاً. ومن المقرر أن يتخذ مجلس الأمن قراراً بشأن تشكيل هذه القوة خلال فترة وجيزة، وذلك بمجرد التأكد من تحقيق السلام، وانتهاء الأعمال الحربية. وعلق وزير الدفاع الفرنسي، جان إيف لودريان، على التقارير الخاصة باحتمال تشكيل قوة حفظ سلام دولية في مالي بالقول: "هذا تطور إيجابي بشدة، وأريد لهذه المبادرة أن تنجح.. من الواضح أن فرنسا ستضطلع بدورها". وتحبذ دول، مثل الولاياتالمتحدة، فكرة قوات أممية لحفظ السلام بدلاً من قوة أفريقية على النمط الجاري حالياً في الصومال. القوات الفرنسية ساعدت قوات مالي في استعادة عدة مدن من المقاتلين ومبدئياً، فإن الكثير من القوات الأفريقية، التي بدأت في دعم الجيش الفرنسي والقوات الحكومية، يُمكن أن تبقى في مالي، وتصبح جزءاً من قوة حفظ السلام الأممية. تقول دبلوماسية أميركية سابقة إن الولاياتالمتحدة تعتبر عمليات حفظ السلام مصلحة قومية مباشرة للولايات المتحدة، وهي جديرة بتلقي دعمها السياسي والمالي. وترى أن هذه العمليات وسيلة فعالة وناجعة لمجابهة التحديات الأمنية، والمشاكل المتصلة بالاستقرار. وتُعرّف عمليات حفظ السلام على أنها وسيلة لمساعدة البلدان، التي يمزقها صراع، على خلق ظروف لتحقيق السلام المستدام. فأفراد هذه العمليات، من جنود وضباط عسكريين وضباط شرطة مدنية، وموظفين مدنيين، يقومون برصد ومراقبة عمليات السلام، التي تنشأ عن حالات ما بعد الصراع، ويساعدون المحاربين السابقين على تنفيذ اتفاقيات السلام التي وقعوا عليها. وتتمثل هذه المساعدة في صور مختلفة، لا سيما تدابير بناء الثقة، وترتيبات تقاسم السلطة ودعم الانتخابات، وتعزيز سيادة القانون، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتعد عمليات الأممالمتحدة لحفظ السلام إحدى الأدوات الفريدة المتاحة للمجتمع الدولي للمساعدة على حل النزاعات ومنع الحروب الداخلية. وهي أيضا مجدية من حيث التكاليف، مقارنة بتكاليف النزاعات التي تحدث خسائر في الأرواح، وتتسبب في انهيار اقتصاد الدول، وتدمير بنيتها التحتية. وتشارك قوات حفظ السلام في عمليات الأممالمتحدة بموجب شروط، تشكل موضوع مفاوضات دقيقة بين الحكومات، وتبقى خاضعة لسلطتها. ويجري نشر القوات وقادتها بوصفها وحدات وطنية ترفع التقارير حول مسائل العمليات إلى قائد قوة البعثة، ومن خلاله إلى الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة. ويبقى إرسال قوات حفظ السلام أو سحبها من صلاحية الحكومة التي تطوعت بها، كما أن ضباط الشرطة المدنية تساهم بهم أيضاً الدول الأعضاء، وهم يعملون على الأساس نفسه، وكذلك المراقبون العسكريون. وينص ميثاق الأممالمتحدة على أن يتعهد جميع أعضائها، في سبيل المساهمة في حفظ السلام والأمن الدوليين، بأن يضعوا بتصرف مجلس الأمن ما يلزم من القوات المسلحة والتسهيلات الضرورية. ومنذ العام 1948، ساهمت في عمليات حفظ السلام قرابة 140 دولة بأفراد من الشرطة العسكرية والشرطة المدنية. ولا تتوافر سجلات مفصلة بجميع الموظفين الذين خدموا في بعثات حفظ السلام منذ ذلك العام، إنما يقدر عدد الجنود وضباط الشرطة والمدنيين الذين خدموا راية الأممالمتحدة بنحو مليون شخص. وعلى الرغم من هذا العدد الكبير من البلدان المساهمة، مازالت تنهض بالعبء الأكبر مجموعة أساسية من البلدان النامية، فقد كانت البلدان العشرة الرئيسية المساهمة حتى حزيران يونيو 2004، هي: باكستان وبنغلاديش ونيجيريا وغانا والهند وإثيوبيا وجنوب أفريقيا وأوروغواي والأردن وكينيا. ويساهم الاتحاد الأوروبي بنحو عشرة في المائة من القوات والشرطة المدنية التي تم نشرها في بعثات الأممالمتحدة لحفظ السلام، بينما تساهم الولاياتالمتحدة بنسبة واحد في المائة. وبعد قرار الاتحاد الأوروبي في العام 2006 رفع مساهمته في قوات الأممالمتحدة العاملة في جنوب لبنان إلى نحو 7000 عنصر، بدت أوروبا وقد أخذت دور الريادة في واحدة من أكثر عمليات الأممالمتحدة حساسية. ويتقاضى جنود حفظ السلام أتعابهم من حكوماتهم، وفقاً لرتبهم الوطنية وجدول المرتبات. وتسدد الأممالمتحدة التكاليف إلى البلدان التي تتطوع بأفراد من القوات النظامية للعمل في بعثات حفظ السلام، بمعدل موحد يكاد يربو على 1000 دولار شهرياً للجندي الواحد. كما تسدد للبلدان تكاليف المعدات. والدرس الأهم الذي يمكننا الخروج به، بعد عقود على عمل قوات حفظ السلام الدولية، هو ضرورة حصول وقت كاف لبناء السلام من بعد رماد الحروب، وأن يتحلى الجميع بنفس طويل، وألا يتسرب اليأس والوهن إلى النفوس. ولا بد من جهة ثانية من تقديم التشخيص الصحيح للنزاعات القائمة، والظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بها، وطبيعة وحجم القوى المؤثرة، والدينامية التي يتحرك من خلالها النزاع. ويجب على صعيد ثالث أن يتفق مجلس الأمن الدولي على ولاية واضحة المعالم، وقواعد اشتباك محددة لا لبس فيها لقوات حفظ السلام، وأن تكون الولاية قابلة للتحقيق، وألا تمثل عامل استفزاز لجهات بعينها، أو للشعور الوطني العام. ولا بد على صعيد رابع من أن يتم نشر القوات الدولية بالسرعة المطلوبة وضمن المدة المحددة، وبالحجم الذي جرى التوافق عليه. وأخيراً، يجب أن تتوفر لدى قوات حفظ السلام الإرادة اللازمة للعمل مع المؤسسات المحلية، الرسمية منها والخاصة، وعموم المجتمع الأهلي، حتى تغدو قادرة على تحمل مسؤولياتها على الوجه الأمثل، وتساهم في إضفاء الشعور العام بالأمن لدى أفراد المجتمع. واليوم، فإن أي وجود محتمل لقوات حفظ سلام أممية في مالي يجب أن يلحظ منظومة عريضة من المعطيات الأمنية والسياسية، القديمة والمستجدة، وأن يعتمد مقاربة ناجزة للعلاقة مع المجتمع المحلي في شمال البلاد، المتسم بقدر كبير من التنوّع العرقي والثقافي. وفي المجمل، يُمكن التأكيد على حقيقة أن مبدأ نشر قوت حفظ سلام أممية في مالي يبقى خياراً أكثر فاعلية وجدوى من نشر قوة أفريقية كتلك الموجودة في الصومال. وعلى القوى الحية في المجتمع الدولي أن تدعم هذا الخيار، وتدفع باتجاه تطبيقه في أسرع وقت ممكن.