مراكز الدراسات الاستراتيجية تلعب دوراً بارزاً من خلال وضع الخيارات والافتراضات والاقتراحات والحلول أمام صاحب القرار ناهيك عن تأهيل وتدريب وتخريج الخبرات الاستراتيجية المستقبلية للعمل في تلك المراكز أو غيرها من القطاعات بما أن المملكة تتمتع بعدد كبير من المميزات الاستراتيجية ذات العلاقة بالثقل الاقتصادي والسياسي والأمني والجغرافي والديني والاتزان والاستقرار والحكمة وذلك على المستوى الإقليمي والدولي بالإضافة إلى المستوى المحلي. كل ذلك جعلها محط أنظار العالم من حيث إنها قبلة المسلمين والمصدر الرئيسي للطاقة التي تعتمد عليها الحضارة المعاصرة، وكونها تشكل مفترق طرقه ومواصلاته واتصالاته وملتقاها، فالمملكة تمثل سرّة العالم وهذا يؤهلها لأن تلعب دوراً أكبر في جميع المجالات وفي مقدمتها جذب الاستثمارات العالمية بصورة أكبر مما هو حاصل الآن، ما يحولها إلى مركز تتنافس عليه الشركات والدول الصناعية للحصول على موطئ قدم فيه، وهذا لا يتأتى إلا من خلال وجود مركز أو مراكز للدراسات الاستراتيجية تقوم بإعداد استراتيجيات سكانية وإسكانية واقتصادية وأمنية وسياسية وسياحية واجتماعية وثقافية وزراعية واستثمارية، بالإضافة إلى استراتيجيات الأمن المائي والغذائي.. ناهيك عما يحتاجه التعليم والصحة من تخطيط.. ليس هذا فقط بل إن تعدد مصادر الدخل والمستقبل المنظور والبعيد فيما يتعلق بالحراك الوطني على المستوى المحلي والإقليمي والدولي يحتاج إلى رؤية واضحة تحددها دراسات استراتيجية مرنة قابلة للمد والجزر حسب متطلبات المرحلة واستحقاقاتها والمستجدات وإرهاصاتها.. نعم إن من أهم أدوار مراكز الدراسات الاستراتيجية هو تحويل الدراسات والبحوث والرؤى إلى أطر قابلة للتطبيق والتنفيذ تتسم بالاتساق والتكامل لأن ذلك يساهم في تعظيم دور الدولة والمواطن في عملية التنمية مع أخذ الدروس من الوضع الحالي الذي تعتمد فيه التنمية على قوة العمل الوافدة مع معاناة عدد كبير من شباب الوطن من البطالة وقلة فرص العمل. لقد آن الأوان لكي تنتقل المملكة إلى نمط مغاير من أنماط التنمية يعتمد على الكوادر الوطنية ناهيك عن أن الوضع الحالي يعني وجود خلل في التركيبة السكانية للمملكة بشكل يهدد الجهود التنموية، ويفضي إلى تعثرها على المدى الطويل وذلك باستمرار اعتمادها على العمالة الوافدة غير الآمنة؛ لأنها عند الأحداث الكبار تهرب إلى أوطانها كما حدث خلال حربي الخليج الثانية والثالثة فهي لا تملك أي نوع من الانتماء إلا ما يتم قبضه في نهاية كل شهر، وما تحوله من سيولة بلغت العام المنصرم ما يصل إلى (120) مليار ريال، كان من الأجدى أن تبقى داخل البلاد تدور في حلقة الاقتصاد الوطني وتعززه. إن مراكز الدراسات الاستراتيجية عند قيامها سوف تصبح منوطة بتحديث الأنظمة والقوانين ودراسة إعادة هيكلة قطاعات عديدة عامة وخاصة بما يتواكب مع آخر المستجدات التي أفرزتها الثورة العلمية والتقنية التي تجتاح العالم والتي أصبح لها دور فاعل في اختصار الوقت وتفعيل الانجاز، والتخلص من البيروقراطية المعطلة لأن تلك التحولات أصبحت من أهم سمات الإدارة الحديثة التي تتسم بالكفاءة والإنتاجية لأنها تستند في أدائها على مقومات علمية عمادها الاتقان من حيث التدريب والاستيعاب من خلال الممارسة وليس التنظير، وهذا الأسلوب تحظى به العمالة الوافدة بعد استقدامها حيث إن الغالبية العظمى منها تأتي دون خبرة تذكر وتعطى الفرصة الكاملة لدينا لممارسة الصح والخطأ حتى تجيد العمل أي أننا نشكل ورشة عمل كبرى تخرج كوادر أجنبية في مجالات السباكة والبناء وصيانة السيارات والكهرباء، والتمريض والتسويق والسواقة والأعمال المنزلية وكذلك في الصناعة والتجارة والنقل والمواصلات، والتشغيل والصيانة.. وحدث ولا حرج. أما المواطن فيشترط أن تكون شهادته متلائمة مع متطلبات سوق العمل، وأن يكون لديه خبرة لا تقل عن عدد من السنين بالإضافة إلى إجادته للغة الانجليزية تحدثاً وكتابة وغيرها من الشروط التعجيزية، ناهيك عن وصمه بالكسل وعدم الجدية وعدم الصبر عليه وعدم إعطائه الفرصة الكافية للتدريب ناهيك عن انخفاض الأجور المقدمة له وذلك بالمقارنة النسبية لما تحصل عليه العمالة الوافدة دون تقدير لظروفه الأسرية والاجتماعية والبيئية، وغيرها من العوامل التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. ومع ذلك لازلنا نستخدم التنظير لحل المشكلة ما يتوجب معه أن تدخل الدراسات الاستراتيجية هذا الميدان وغيره لوضع حلول ناجعة تتسم بالعملية والمنطقية وقابلية التطبيق الفوري حتى لو أدى الأمر إلى التوصية بفرض التجنيد الإجباري الذي يكون الغرض منه إعادة تأهيل بعض الشباب المترهل على الجدية والمسؤولية والوعي، وتنمية ثقافة العمل لديهم بحيث يصبح التنافس على استقطابهم من أهم سمات سوق العمل المحلي. إن المترهلين وإن كانوا قلة يكونون عالة على أسرهم ووطنهم ويعطون انطباعاً سيّئاً عن الأكثرية من الشباب الناضج الجاد الملتزم الذي يسعى إلى بناء أسرة منتجة ويتسم بالولاء للوطن إلا أن البطالة تخدش هذا التوجه.. وهذه المفارقات يصدق عليها القول المأثور الذي يشير إلى أن «نافخ كير واحد يشوّه مجهود عدد كبير من العطارين» .. إن الوطن غني بشبابه الذين أثبتت الاحصاءات أنهم يشكلون غالبية السكان حيث تتراوح أعمارهم ما بين (15 - 29) عاماً من ذكور وإناث ما يتوجب فتح فرص العمل المحجوبة بواسطة العمالة الأجنبية أمامهم. إن مراكز الدراسات الاستراتيجية معنية عناية كبرى بالاستراتيجيات التي تعنى بتنمية رأس المال البشري وذلك من خلال عدة محاور منها: * النمو السكاني والعمل على زيادته بما يتوافق مع المستقبل المنظور والبعيد. * التركيبة السكانية بحيث لا تزيد العمالة الوافدة على (15٪) من مجمل عدد السكان السعوديين. * النمو الحضري والهجرة الداخلية والعمل على إحداث توازن يحد من الهجرة. * القوى العاملة وتنمية الموارد البشرية وتأهيل المتوفر منها واستيعابه من خلال الإحلال من ناحية، وفتح فرص عمل جديدة من ناحية أخرى. * استخدام الاحصاءات السكانية كمؤشر لما يجب عمله والاستعداد له. نعم إن وجود مراكز الدراسات الاستراتيجية المؤهلة وليست الفردية يعزز المكاسب ويضيف إليها وذلك أن تلك المراكز تشكل نافذة وعيناً بصيرة تسابق الزمن، وتتناغم مع المستجدات عند وضع التصورات والاحتمالات والحلول معتمدة على دراسة واقع الحال والمستجدات التي تمسه وذلك على مستوى الساحة المحلية والإقليمية والدولية فكلها حلقات متواصلة تؤثر في بعضها البعض.. لذا فإن مهمة تلك المراكز تقوم على ربط الأحداث السابقة والقائمة والمحتملة من خلال الاستقراء والتحليل والاستنتاج وأخذ العبرة والدروس من الماضي والاستفادة من العبر والدروس التي أفرزتها تجارب الآخرين فخير الناس من اتعظ بغيره، بالاضافة إلى دراسة واقع الحال وتحديد سلبياته وإيجابياته والعمل على تعظيم الإيجابيات والحد من السلبيات، واستشراف المستقبل والاستعداد له بخطط واستراتيجيات مرنة تستجيب للمتغيرات والمستجدات. إننا كغيرنا من الدول النامية لازلنا نعتمد في الاستقراء والاستنتاج في بعض الأمور على ما تصدره مراكز الدراسات الاستراتيجية الدولية أو المحللون الدوليون والتي قد تكون صحيحة للبلدان التي صدرت فيها لكنها قد تكون مغلوطة عند تطبيقها على بلدان أو بيئات أخرى ناهيك عن أن أغلب الدراسات الاستراتيجية التي تصدر عن الغير تأخذ بعين الاعتبار بصورة رئيسية مصلحة بلدانها حتى وإن كُتبت للآخرين بينما مراكز الخبرة الوطنية سوف تكون أقرب للصواب خصوصاً إذا اعتمدت على أفكار وآراء خبرات وطنية مخلصة. إن وجود مركز وطني للدراسات الاستراتيجية يعني تفعيل كثير من القطاعات التي تتوافر فيها خبرات وطنية تعمل بأقل من طاقتها الفعلية؛ وذلك من خلال التعاون والتنسيق مع الخبرات المتوفرة في الجامعات ومراكز البحوث والصناعات الوطنية والقطاعات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، والاجتماعية والفكرية والثقافية والعلمية والصحية، وتعزيز ذلك من خلال الاتصال والتواصل مع المراكز والأوساط المتخصصة على المستوى الإقليمي والدولي. إن مراكز الدراسات الاستراتيجية تلعب دوراً بارزاً من خلال وضع الخيارات والافتراضات والاقتراحات والحلول أمام صاحب القرار ناهيك عن تأهيل وتدريب وتخريج الخبرات الاستراتيجية المستقبلية للعمل في تلك المراكز أو غيرها من القطاعات التي تحتاج إلى ذوي الخبرة والكفاءة والدراية بمعطيات العصر ومتغيراته. كما أن تلك المراكز يمكن أن تعمل من خلال دوائر متداخلة ومتكاملة مثل الدائرة الوطنية والخليجية والإقليمية والإسلامية والدولية بحيث تصبح تلك الدوائر متناغمة في تعظيم مصلحة الوطن أو ضمان مستقبله واستقراره وأمنه وسط هذا الطوفان الجارف من عدم الاستقرار الأمني الإقليمي والاقتصادي العالمي والذي نحمد الله على أنْ حفظ لنا أمننا واستقرارنا وقوة اقتصادنا الذي عبرت عنه ميزانية الخير والعطاء التي تجاوزت (820) مليار ريال للعام القادم، وما تضمنته من مشاريع تنموية، ومخصصات للخدمات والتعليم والصحة والأمن والدفاع والإسكان والنقل والمواصلات وغيرها من مخصصات الخير والنماء بقيادة خادم الحرمين الشريفين ومؤازرة ولي عهده الأمين - حفظهما الله - والله المستعان.