ظل بيسوا في ذاكرة الشعر، واحداً من أغرب شعراء القرن العشرين. ظلت غرابة هذا الشاعر لا تنبع من غموض شعره فحسب بل كانت علامة على شخصيته التي كثيراً ما بعثت الدهشة، وأثارت الاسئلة، وكانت في مجال الشعر، على مستوى العالم، تشبه قصائده التي كانت في وقتها، عصية على التصنيف. هل كان بيسوا سورياليا؟ أم كان شاعراً رمزياً؟ أم كان واحداً من الشعراء الذين لا يمكن القبض على كينونتهم؟! أم كتب الرجل – طوال عمره القصير- قصيدته باحثاً فيها عن ذاته، عن هويته، عن كونه الخاص الذي جسده خيال الشاعر، وشخوصه تلك سيرة الحلم، وذلك العالم الافتراضي الذي عاشه شاعر مثل بيسوا حيث اختلق في مسيرته أربعة من الكتاب، ظل يحدق من خلالهم على العالم، حيث أبدعوا أجمل الشعر، وعرفتهم الدنيا كشعراء مستقلين عمن أوجدهم، ريكاردوريس الذي اصبح أنا أخرى لبيسوا، كم اصطنع اثنين برزا إلى حيز الوجود الأدبي، هما: كاييرو، والبارودي كامبوس، وعبر سنوات ظل هؤلاء يكتبون حتى أضاف لهم الشخصية الرابعة، المتخيلة "برنارد سوارش". الأربعة، الذين كان يتحاور معهم، هؤلاء المتخيلين الذين عرفهم الناس أكثر ممن أوجدهم؟! يخلو تاريخ الأدب مما صنعه بيسوا بأنداده!! تركهم يكتبون، مندفعين نحو تحقيق وجودهم الخاص، بتلك القوة الرمزية لتلك الشخصيات المتخيلة التي تقبض على عالم الشعر بعبقرية فرناندو بيسوا، وتركهم ينتجون له الشعر فيما تفرّغ هو لكتاب اللاطمأنينة. ولد فرناندو أنطونيو نوغير بيسوا في لشبونة يوم 13 يونيو 1888 وتوفي بها يوم 30 نوفمبر في العام 1953.. عبر السبع والأربعين سنة التي عاشها وصنعت حياته "بحياة رجل عايش الأشياء التي تحدث في الحياة من بعيد، مبتسماً، بدون أن يختلط بها متخذاً من "مهمة العبقري المقدسة والرهيبة هدفاً حيوياً لحياته، إلا أنه قرر التخلي عن كل أنواع الشهرة التي تليق فقط بالممثلات والمنتوجات الصيدلية بدون اظهار أي ندم أو مرارة أو حقد "هكذا قال عنه مترجمه الشاعر المغربي المهدي أخريف". لقد عاش بيسوا طوال عمره القصير، وبعد أن قضى زمنا من سنواته في جنوب أفريقيا، يرى ويتعلم، ويتقن اللغة الانجليزية، ثم عاد للشبونة يباشر عشقه الأزلي للشعر والفلسفة واللاهوت، مصطنعاً أنداده، بعدها يتفرغ لكتابه الهائل.. "كتاب اللاطمأنينة". يقول بيسوا على لسان نده البارودكاندس: أن أحس كل الاشياء بجميع الطرق الممكنة. أن أعيش الاشياء كلها من جميع الجهات. أن أكون الشيء ذاته بجميع الصيغ الممكنة في وقت واحد. كما ظل بيسوا يردد طوال حياته "كل منا يعيش حياتين: واحدة في الحلم، والأخرى تأخذنا إلى القبر". كان الحلم أحد دوافع بيسوا لعشق الكلمات، والوعي بالكلمات قاده إلى طريق الشعر، والشعر انتهى إلى انشاء "نوستالجيا" يسمع فيها نبض الأشياء التي حفزته لكتابه "كتاب اللاطمأنينة". يقول بيسوا: "نحن لم نعش الحياة، الحياة هي التي عاشتنا، بنفس الطريقة التي يرشف فيها النحل الرحيق، نرى ، نتكلم، ونحيا، الاشجار تنمو، بينما نحن ننام". لقد ظل هذا الشاعر الفريد يكتب الشذرات والمقاطع في تتبع يثير الدهشة، يلقي ما يكتبه في حقيبة من جلد بائد حتى جاء أحدهم، وباخلاص المحب ظل يعيد ترتيب تلك الشذرات والمقاطع التي تشبه الرؤى، حتى كانت "اللاطمأنينة" يقول: (اكل شيء يفلت مني. حياتي كلها، ذكرياتي، مخيلتي بما تحتويه، شخصيتي، الكل يتبخر، أحس باستمرار أنني كنت شخصاً آخر، وأنني أحس بالذي أعانيه هو مشهد من سيناريو آخر.. من أكون؟.. كم من ذوات أنا؟ من هو أنا؟ ما هو ذلك الفاصل الموجود بيني وبيني؟!! كان على بيسوا الذي يعيش أيامه الغابرة، أن يستعيض عن تلك الخيبات بالشعر، حيث يهمس لنفسه "السنا بشيء ذي وزن. باطل ما نحن إياه" وهناك على الشطآن البعيدة يقف وحده ويرتل ريحا خفيفة جداً تهب ثم تمر، دائماً خفيفة جداً وأنا لا اعرف فيم أفكر ولا أسعى إلى أن أعرف.