مرت بالعرب ثلاث فرص تاريخية ذهبية كان من شأنها أن تضعهم في أمان وتميز حضاري متواصلين لو أنهم استفادوا إيجابيا من تلك الفرص.. وطبيعة الظواهر التاريخية لا تأتي شاملة في كل المواقع ولكنها تنشأ في الجزء كي تنشر إيجابياتها على الكل.. تمثلت الفرصة الأولى في العهد الراشدي المضيء الذي مثل حضورا بشريا امتلأ بأكثر مما وعدت به كل العقائد والأيدلوجيات قبله وبعده من ممارسات إنسانية ارتقت بعضوية الفرد وسط مجموعته, وحملت المجموع مسؤوليات حفظ حقوق كل فئات المجتمع بصيغ من العدالة المثالية التي لم توفرها حتى الآن أي سلوكية سياسية أخرى, وما زالت شخصية عمر بن الخطاب نموذجا لم يتكرر بعد, لكن انتماءات ما قبل الإسلام وطبيعة تركيب نفسية الفرد العربي كانت أكثر استجابة للخروج من مثالية ذلك البهاء الرائع. الفرصة الثانية وهي وإن لم تتعلق بمثالية السلوك السياسي والعدالة الاجتماعية إلا أنها فتحت أفقا جديدا للعرب كي تكون حياتهم الاجتماعية والحضارية أكثر رقيا وعطاء فنيا عبر امتداد الجديد في نوعيات المناخ والطبيعة بعد أن عربوا الجنوب الغربي من أوروبا, لكنهم وبمثل ما واصلوا به التطلع الحالم إلى مثاليات العهد الراشد مارسوا ندب حظهم في الخروج من الأندلس أو فردوسهم المفقود وكانت أسباب الخروج من مثاليات العقيدة متشابهة مع أسباب الخروج من مثاليات الطبيعة والمناخ.. ثم بعد زمن طويل أتى الأندلس الجديد.. البترول.. الذي كان وسيلة وحيدة وإعجازية كي يبني بها العرب جسورا قوية وسريعة التنفيذ تصلهم بما سبقهم بأزمنة طويلة من إنجازات حضارية عند غيرهم.. كان هو موضع القفزة المذهلة للانتقال من مجتمع القبيلة الرعوي إلى مجتمع المدينة الحضاري, لكن ومع الأسف ولأن القبيلة تحولت إلى فئة حكم معزولة بحزبيتها أو تنظيمها الخاص فإن عددا من الدول البترولية العربية ما لبثت أن نعت أندلسها الذي توارت أهمياته وأصبح مجرد بئر لإطفاء حرائق الديون.. الأمانة تقتضي أن نتوقف أمام تجربة المملكة التي اختلفت كثيرا وبشكل جذري عن أولئك النفطيين العرب كما في العراق وبعض دول إفريقيا العربية الذين أحرقوا امكانياتهم وتوقفوا كما في المبادلات البدائية عند حدود البيع كيفما اتفق لكسب قوت اليوم.. هذا هو الصحيح.. ربما كان العراق ملحوظا أكثر لوقوعه تحت رقابة دولية لكن الآخرين لا يختلفون عنه وما زالت لديهم المعاناة على أشدها من ندرة الدواء والغذاء ومرافق الخدمات وازدهار القطاع الخاص.. المملكة ومثلها بعض دول الخليج بنت من النفط مدنا وقرى ما كان لها أن تصل حضاريا إلى مساحة النصف الثاني من القرن العشرين لولا استراتيجيات خطط التنمية الاقتصادية المتلاحقة التي لعبت أدوارها الإعجازية في حياة الراعي ومزارع النخلة وأمي القرية وجدران طين المدينة.. إن إطلالة سريعة على الواقع الإداري والعلمي عند أرامكو السعودية أو سابك أو معهد الإدارة العامة أو مدينة الملك عبدالعزيز العلمية أو مراكز الأبحاث الطبية أو حقائق تضخم عدد المؤهلين من الشباب على العدد المتاح من الوظائف.. كل ذلك يكشف وبوضوح إلى جانب واقع أدوات الإنسان في استخداماته الحضارية المختلفة.. يكشف أن المملكة قد ضاعفت أندلسها ضعفين, بل لقد صنعت مما في باطن الأرض التكوين الأجمل على سطحها.. إن ميلاد "المجلس الاقتصادي الأعلى" هو المرحلة الأكثر تقدما لما يراد من خطط التنمية أن تواجهه من ملاحقة لظروف العصر.. إنه برج استشراف عملاق من شأنه أن ينظم السياسات المالية ويرعى تطبيقها ويواصل السبق بالمواطن في ظروف عالمية صعبة كي يكون الأقرب للتواؤم مع متطلبات القرن الواحد والعشرين, والأقرب للاستفادة من منجزاته هو الذي بدأ من الصفر قبل منتصف القرن الآفل ويستطيع التأكيد على أنه كان الأفضل بين كل الزمالات العربية عامة والبترولية خاصة في النصف الأخير منه الذي هو الآن على وشك الرحيل.. ذلك أن الوقوف عند منجزات مر بها زمنها مهما كانت كبيرة لن تكون موظفة لملء زمن قادم أتى بعدها, مما يجعل مهمة المجلس الاقتصادي الأعلى كبيرة للغاية تخطيطا وتنفيذا وملاحقة.