قد يكون الاستعداد الفطري هو وراء تشعب التخصصات، فكم رأينا تاجراً ناجحاً لا يورث مهنته لأبنائه، وكم رأينا عالماً أو مثقفاً لا يورث أولاده من صفاته إلا القدرة على الكتابة والقراءة وحسب. فالسعي في الأرض والكد والجد والنبوغ مطلوب لصقل الاستعداد الفطري يجادل بعضُ الكتاب أن المال والثقافة لا يجتمعان. فإن اتصف أحدهم بالثقافة فلا يعدو أن يكون مملقاً، ويصفونه عندئذ بأن حرفة الأدب أدركته. وإن كان ذا مال فلا يعدو أن يكون لا يعرف بما فيه الكفاية من شؤون الثقافة وشجونها، ويستشهدون بقول الشاعر : رضينا حكمة الجبار فينا لنا أدبٌ وللجهال مالُ هذه العلاقة الجدلية بين المال والثقافة هي مدار حديث هذا الأربعاء. وهي حالة تتعلق بمثقفين لا مال لهم، ونرى بالمقابل رجال أعمال ناجحين لا ثقافة عندهم . هذه حالة صحيحة، ولكنها ليست متصادمة . هي صحيحة لأن رجل الأعمال الناجح ينصرف إلى تنمية تجارته، ويسعى ما وسعه السعي إلى زيادة دخله، والارتفاع ببيعه، وزيادة مكاسبه، وبالتالي لا يتوفر له الوقت والجهد ليزجيهما في قراءة وحضور فعاليات ثقافية، وتنمية مداركه وزيادة محصوله الثقافي. وبالمقابل فإن المثقف يصرف وقته مصاحباً الكتاب، ويزجي أوقاته مع أمثاله من العلماء والأدباء، وربما يصبح مؤلفاً ينشر إنتاجه، ما يجعله على صلة دائمة بالحرف. لهذا لا يتملك المال أو الوقت ليصبح تاجراً. على أن هذا الوضع الصحيح لا يمنع أن نجد من يجمع بين الحسنيين ويبرز في الحالتين. فيجمع المال الحلال، ويسطع اسمه كنجمة في سماء الأدب والثقافة، بل ويسخر جزءا من ماله لخدمة الثقافة. أنا لا أظن أن بين المال والثقافة عداء أو تصادما، أو تضادا مستحكما. ما أراه أن كل إنسان ميسر لما خلق له. وقرأت في كتاب: الفلاكة لابن طولون قول الإمام علي بن أبي طالب رحمه الله: حذق المرء محسوب من رزقه. لهذا فليس كل تاجر ناجح بقادر على الإلمام بالثقافة. وليس كل مثقف مبرز بقادر على التعامل مع الأرقام والبيع والشراء. والصدق أن التخصص هو وراء عدم اجتماع المال والثقافة عند رجل واحد أو امرأة واحدة. اجتماع تخصصين مختلفين عند رجل أو امرأة هو من الاستثناء، أما القاعدة فهي التخصص الواحد، لهذا نستطيع أن نقول إنه لا تخاصم بين الثقافة والمال . وفي الوقت نفسه نقول إن الحياة تتسع لتخصص واحد لا تخصصين بعيدين عن بعضهما، وإن التخصص احتراف وزمن يُبذل ولا مجال لتغيير هذا الوضع . فلم يخلق الله من قلبين في جوف واحد. وقد يكون الاستعداد الفطري هو وراء تشعب التخصصات، فكم رأينا تاجراً ناجحاً لا يورث مهنته لأبنائه، وكم رأينا عالماً أو مثقفاً لا يورث أولاده من صفاته إلا القدرة على الكتابة والقراءة وحسب. فالسعي في الأرض والكد والجد والنبوغ مطلوب لصقل الاستعداد الفطري، وهو استعداد عادة تصقله الحياة. ولهذا يتوزع الناس بين مهن واهتمامات كثيرة. والنادر أن يجتمع لإنسان واحد مهن أو اهتمامات متعددة. لهذا كله نعرف لمَ لا يجتمع المال والثقافة أو غيرهما في قلب أو عقل إنسان واحد. ونختم بما بدأت به من أن المال والثقافة قد يجتمعان في رجل واحد، أو امرأة واحدة، لكن المطرد والنادر أنهما تخصصان لا يجتمعان. ويقول آخرون إن الاستعداد الفطري ليصبح المرء تاجراً أو مثقفاً أو عالماً في فن من الفنون لا يكفي، لابد أن يصرف المرء جهده الواسع، ولا يتكئ فقط على الاستعداد الفطري. فإن حصل أن صرف المرء وقته وجهده في تجارة سيحصل له ثمرة جهده، وسيشتهر بتجارته ويوصف عندئذ أنه من رجال الأعمال. لهذا فإنه لا يتوفر له الوقت الكافي والذهن الصافي ليصرفه في ثقافة أو علم. وبالتالي يصح أن يُقال إنه رجل تاجر وحسب. ويذهب آخرون أنه من النادر أن تجد عالماً أو مثقفاً كبيراً يملك تجارة واسعة. فإن حدث هذا فلابد أنه اشترى بماله الحر ما يجعله ينتسب لنادي القلم أو نادي العلماء. وقد خبرنا في عصرنا هذا بعض رجال الأعمال الذين ينشرون الكتب ويدبجون القصائد الجياد، ويقدمون أنفسهم على أنهم من أهل الرأي والفكر والقلم. فكيف تأتى لهم ذلك؟ جواب السؤال ليس بالسهل، والناس عادة لا يهتمون بالبحث عن إجابة هذا السؤال، لأن العبرة عندهم هي في كشف تلبيس أولئك النفر، وليس المراد محاكمتهم. ويجادل بعض رجال الأعمال بأنهم أحرار في صرف أموالهم، وأنهم يعدون الثقافة والعلم سلعة تُباع وتُشترى، وأنهم يشترون ما يضيف إليهم المتعة الفكرية، والذكر الحسن، وأنهم ينخرطون في هذه الميادين البعيدة عن التجارة من أجل خدمة مجتمعية، وأنهم بسبب هذا كله فعندهم سيان أن يؤلفوا كتاباً أو يشتروا من يؤلف لهم كتاباً. هذا عرض موجز لإشكالية يعاني منها بعض مجتمعات العالم النامي، لأنني لم أقرأ أو أسمع عن رجل أعمال مشهور أصبح أديباً وألف كتباً. وبالمقابل نجد هذا في أكثر من بلد من بلاد العالم النامي. والسؤال الأخير هل هذه الإشكالية متفشية في مجتمعنا السعودي. وهل نحن فعلاً نراها بصورة واضحة؟ هذا سؤال لا أملك عليه أدلة. والله أعلم