ينزوي الكائن المبدع بعيدا عن الآخر ، يترقب حالة " خلق " تلامس مايفكر به من التقاطع الكبير تجاه مجتمعه ، يستعطف الشعور بداخله ليمنحه بوحا ، توقا ، ولادة من الروح مشروعا للجمال ، وتفاصيل تصعد بأمانيه بعيدا ... عن فكرة الحواجز الأسمنتية ، والنزول إلى مفهوم العظمة ، والصعود فوق الأكتاف ، والوصول إلى مشاريعه الإبداعية بلغة المال ! ويبقى على ذلك " التوق " لشيء لن يأتي ، أو ربما يتأخر ، ولكنه يرفض في مقابل مايشعر به بأن يتقاطع مع جمهوره والذي يمثل " التاجر " جزءا من ذلك الجمهور ، في حين يصر التاجر بأن يتلمس رؤيته الاقتصادية التي تنطلق من بوح الواقع الذي يعتبر آخر الاهتمامات لدى المثقف ... فهل ذلك - حقا - ماخلق حالة الالتباس بين المثقف وبين التاجر ؟ أم أن الأديب والمفكر يبقى يصر على التفلت من سطوة لغة العصر " المال " رغم حاجته إليه لكي يصل !! استطاع بعض التجار أن يخترق تابوت المثقف ، وأن يخلق تواصلا - جميلا - بين لغة المال ولغة الفكر والفلسفة والإبداع ، كما حدث ذلك مع عبدالعزيز البابطين ، وعبدالمقصود خوجة ، وجائزة العويس الثقافية من الإمارات ، والذين حملوا الهم الثقافي والفكري بداخلهم ، في حين بقي المثقف يفضل أن يتصاعد بسموه عن التواصل ... فهل تبدو العلاقة بين المثقف والتاجر ملتبسة لأن المثقف يعيش بأفكاره التي لاتتناسب مع رؤاه الحياتية فيؤثثها على التأمل والهدوء والعطاء الروحي في حين لاتناسب مع حياة التاجر الذي يعتمد على مبدأ الربح والخسارة ؟ أم أن المثقف لم يستطع بعد أن يسوق لمشاريعه الثقافية التي تتقاطع مع الجمهور الكبير بمن فيهم التاجر " رجل الأعمال " . ؟ أم أن الثقافة فعل مضاد للتجارة ؟ أم أن تراثنا وتراكمنا الثقافي ساهم في خلق تلك الفجوة ؟ أم أن المثقف يسلتذ بحالة البؤس والفقر لأنهما الحالة التي تبقيه متجردا من زيف الدنيا فيكون هنا للحزن طعم شهي وللحرمان عصف أشهى وللألم تحريض على التحليق ؟ المثقف وقيمة الأشياء يوضح الدكتور علي الرباعي - الناقد والكاتب - بأن كل تاجر مثقف بدرجة ما ولو في مجال تخصصه وليس كل مثقف تاجر ، فهناك عبر التاريخ مايرسخ مفهوم بأن هذه الثقافة والكاتبة والأدب هي " بضاعة البطالين " فهي كالنص الشعري الذي يقول " طواويس بضاعتها كلام " فالتاجر يحمل الفكر الذي يتأمل في المشاريع وفي تحصيل المال ، أما المثقف الحقيقي والمنتمي إلى مجتمعه هو يؤمن بعدد من المبادئ التي يدافع عنها ، وأحيانا يصل إلى مرحلة المواجهة مع التاجر أو صاحب المال ، بحكم أن صاحب المال يفكر في الربحية دائما بينما يفكر المثقف في العدالة وكيف يحققها ، فالتجار - عبر التاريخ - يبحثون عن تنمية مواردهم المالية وزيادتها فربما وقع التاجر في تجاوزات مقصودة أو غير مقصودة فعادة مايرتبط الجشع والاستغلال بالحس التجاري ، موضحا بأن المثقف يعتني بقيمة الأشياء بينما التاجر يعتني بأثمانها . محمد الحمد نرجسية مبينا بأن الثقافة ليست فعلا مضادا للتجارة ، إذا وجدت التجارة النقية ووجد التاجر الصادق والأمين والمنتمي والذي لديه حس ثقافي ، فهناك نماذج مضيئة من التجار المثقفين الذين احتضنوا المبدعين وأسهموا في طباعة أعمالهم وتبنوا مشاريعهم ، فلابد أن لانقفل ذلك الدور ، فالكثير من مشاريع النادي الأدبي في الباحة مولت من رجال أعمال وتجار وذلك يدل على وجود الحس التصالحي إلا أن تلك المسافة الموجودة بين المثقف والتاجر ، تسهم بها كثيرا نرجسية المثقف وكبريائه بأنه لايتواصل مع التاجر ويرى بأن التواصل ضعف ، وبه ذلة ومهانة لكرامته حينما يمد يده ويطلب من التاجر - على الرغم بأن ذلك غير صحيح - فالعلاقة هنا لابد أن تكون تكمالية بحيث يضع المثقف الأفكار ويقوم صاحب المال بدعم المشروع وطرف آخر يقوم بالتسويق لذلك المشروع وهكذا حتى تصبح العلاقة علاقة تكاملية شتيوي الغيثي موضحًا بأن ذلك يدخل ضمن المشكلة وهي مايمكن حله ببحث الجذور وإيجاد الحلول لها وليست الإشكالية فالإشكالية هنا هي التراكمات والأسئلة التي تبعث على أسئلة أخرى فالإشكال لايحل بل يتطور ويتنامى بما ينتج عنه من سؤالات ، فهناك مشكلة بين المثقف والتاجر لأن التاجر يبحث عن السبل الكفيلة لتنمية ذلك المال وقد يقع ضحايا في طريقه ، في الجهة الأخرى يوجد المثقف الذي يدعو إلى العدالة وإلى منع التجاوزات ومحاربة الطماعين ، وربما يلتقيان - أحيانا - في بعض التقاطعات حينما يكون حس التاجر ثقافيا ، وحينما يكون حس المثقف بعيدا عن النرجسية فيلتمس الأعذار ويحاول تلمس الأشياء من حوله حتى لاتحدث القطيعة أو يجعل هذا التاجر هو الخصم المباشر والدائم له . مشيرا بأن هناك من المثقفين من لديه حس تجاري ، ولديه قدرة أكبر من قدرة التاجر على تسويق نفسه من خلاله ، وفي حفظ المكاسب والأرباح المادية والمعنوية ، ففي الثقافة هناك من وصل إلى مكاسب أو مناصب فذلك موجود ، ولا يمنع بأنه كما أن هناك التاجر الاستغلالي ، هناك أيضا المثقف الاستغلالي . تسويق الفكرة الجيدة أما عن تعاطي رجال الأعمال والتجار مع المثقفين والثقافة فيبين الرباعي بأنه في الغالب لديهم حس انتمائي جيد ، ومتى ماتواضع المثقفون وتواصلوا مع هؤلاء التجار ، وشرحوا لهم عن برامجهم ومشاريعهم التي تعود إلى صالح الوطن وليس بها مصالح خاصة كأن يكون هناك برامج وملتقيات تفيد العموم وتفيد المجتمع ، فمن خلال التجارب كثيرا من التجار لديهم رحابة صدر وسعة لتقبل الأفكار ، ولديهم استعداد للدعم المالي لكل مشاريع الثقافة والتي تعيد بالنفع على الوطن ، مشيرا إلى أنه إذا وجد من ينظر إلى التاجر على أنه أناني وخصم ولا يفكر إلا بالمال ، فذلك نوع من التطاول والتكابر غير المبرر ، وعلى المثقف أن يكون أكثر واقعية في تعاطيه مع التجار ، فالتجار أيضا لديهم من الكبرياء في أنفسهم مالا يقل عن كبرياء المثقفين أيضا . مؤكدا بأن الثقافة تحتاج دائما لسلطة المال ، فعلى سبيل المثال الروائي " ماركيز " و" باولوكويليو " عندما نقرأ سيرتهما الذاتية وقبل أن يصبح لديهم مداخيل من أعمالهم كانوا يعيشون الحياة ببؤس شديد ، وبعد أن اشتهروا وعرفت أعمالهم أصبحوا يعيشون عيشة الملوك ففي العالم العربي مازلنا نعيش حالة تواضع في نظرتنا للمثقف أو المردود المالي الذي يحصل عليه . الجانب النظري والمادي محمود تراوري ويرى " شتيوي الغيثي "- الناقد - بأن الثقافة في جانب من جوانبها معطى مادي يمكن الاستثمار فيها، بل يمكن القول: إن كل المعطيات الحياتية التي يستخدمها التاجر هو استغلال لهذا المعطى في الإنتاجية. ولذلك يبرز المثقف كمنظر لهذه الثقافة في حين يبرز التاجر كمستخدم لها وهنا يكمن الفارق بين الاثنين. فالمثقف يعيش في العالم النظري في حين يعيش التاجر في العالم العملي، وكلا الاثنين بحاجة للآخر على التعارض الظاهر بينهما. موضحًا بأن المثقف لن يستطيع العيش من غير إنتاجية فكرية يمكن لها أن تتحول لمادية منتجة، كما أن التاجر لا يمكن له أن ينتج من غير رؤى نظرية سابقة خرجت بطريق مباشر أو غير مباشر من قبل المثقف. الفارق بين الاثنين أن المثقف أبقاها في جانبها النظري في حين حولها التاجر إلى جانبها المادي، والتعارض ناتج عن هذا التحويل كونه تحويلا نفعيا غالباً ما يرفضه المثقف. المثقف نفسه قد يتحول إلى تاجر بعد تحويل الإنتاجية الثقافية إلى مادية أي النزول من الأعلى إلى الأدنى، أو كما هو القول الفلسفي من عالم المُثُل إلى العالم الواقعي، في حين يصعب على التاجر التحول إلى المثقف لأنه تحول من الأدنى إلى الأعلى، رغم تأثير المادية على التحولات التاريخية التي تفرز شيئا من الوعي مما تعزز من ظهور المثقف حسب نوعية هذه التحولات وجذريتها. الجهور في التعاطي مع الأشياء ويرى محمد الحمد - الشاعر ورئيس نادي حائل سابقا - بأن الانطلاق من هذا الافتراض وهو الإقرار بوجود الالتباس بين التاجر والمثقف يقودنا إلى التساؤل عن مفهوم المثقف المقصود ، إلا أننا وبغض النظر عن المفهوم يتناوله من جانبه الفردي بعيدا عن نقاط الالتقاء بين التجارة كنشاط إنساني والثقافة بمفهومها التايلري إن جاز التعبير ولذلك يجيب على سؤال من شأنه البحث عن تبرير لهذا الالتباس وهو : ما الذي جعل المثقف يصبح مثقفا والتاجر يصبح تاجرا ؟ والإجابة هي أن شخصية الإنسان هي نتيجة ما يقوده من أفكار ومبادئ نحو سلوكياته وعاداته وبالتالي هي نفس الأفكار والمبادئ التي تدفعه إلى التعامل مع من يختلف معه جوهريا فيها وهذا ينطبق على كافة الاتجاهات والاهتمامات وإن بنسب مختلفة مع أن هذا لا يعني التضاد على الإطلاق إذا ما تفهم أحدهما منطلقات الآخر وتعامل معه من خلالها كما اننا يمكن أن نجد تاجرا مثقفا أو مثقفا ينجح في مجال التجارة. دور رجال الأعمال ويرى محمود تراوري - الروائي - بأنه ليس ثمة التباس فيما يتصور ، فالعلاقات بين البشر تحكمها نزعات إنسانية بالضرورة. ويمكن أن نبحث عما هو مطلوب من رجال الأعمال لدعم الفعل الثقافي بتبني مشاريع ثقافية ، كإنشاء مسارح ، وبناء مكتبات ، ومراكز ثقافية ، ورعاية فعاليات ، ودعم نشر وابتعاث مبدعين لدراسة فنون سواء في الموسيقى أو المسرح أو السينما ، ودعم إنتاج درامي عميق وواعي وما إلى ذلك من صيغ ثقافية يفترض أن ينهض بها رجال الأعمال، وفق توجهات تحمل رؤية وقيمة ، وبعيدا عن المزايدات والبهرجة والاستعراضية. فإذا كانت الضرائب تتحكم في ما يصرفه رجل الأعمال في الغرب في هذا الاتجاه ، يمكن أن يصار هنا إلى صيغة محددة تناسب واقعنا الاجتماعي وثقافتنا . وفق منظومة مؤسسات المجتمع المدني وهي المؤسسات التي تزدهر في الغرب ، وينهض على أكتافها النتاج الإبداعي في الغرب ، خاصة في شق المسرح ، والموسيقى الراقية . مشيرا إلى زاوية أخرى تتمثل في مبادرات بعض المقتدرين من رجال الأعمال لدينا في الوقوف إلى جانب المبدعين والمثقفين حال تعرضهم لأزمات صحية بالدرجة الأولى وتكفلهم بتحمل مصاريف علاجهم الباهظة ، غير أن المزعج في هذا الأمر هو أن يتخذ هذا الدعم شكل التسول ، ما يثير حفظية بعض المبدعين ، فمعلوم أن المبدع تهيمن عليه حساسية ما ، تجعله يرفض أن يبدو كمن يتسول . لكن النبلاء من رجال الأعمال عادة يترفعون عن العطاء الذي يتبعه من أو استعراض .