"الشاعر الذي لا يُحفظ له بيت ليس بشاعر"، هذا الرأي أو الحكم ورد على لسان الشاعر تركي المريخي خلال إحدى حلقات البرنامج المتميز (الديوانية) الذي يُبث عبر قناة الصحراء ويقدمه الإعلامي زبن بن عمير، وهو حكم شائع يُمكن أن نسمعه من أشخاص كثر غير المريخي مع تأكيدنا المستمر على عدم صحته على إطلاقه لكونه يؤدي إلى الوقوع في إشكالية تتمثل في أننا سنحكم على موهبة الشاعر بمقياس خارج عن إطار قصيدته وسنقوم بنفي الشاعرية عنه بناء على خلل –وهو عدم القدرة على الحفظ- يوجد في المتلقي لا في الشاعر نفسه. لا يعني هذا الأمر استبعاد استخدام شيوع قصائد الشاعر وحفظها كلياً كمقياس للجودة أو كمعيار يرفعه عن مستوى الشعراء الآخرين، فقد لجأ النقاد إلى مقاييس خارجية ترتبط بشكل أو بآخر بجودة القصيدة ووظفوها في عملية المفاضلة بين الشعراء، من أهم تلك المقاييس ما سموه: "وقع الكلام على النفس"، فالشاعر الأفضل هو الذي تؤثر قصائده في نفوس وقلوب الناس، لذلك فقد "أكدوا على أن أحسن الشعر أسيره على الألسنة"، ولا شك في أن حفظ قصائد الشاعر وسيرها على ألسنة الناس هو نتيجة طبيعية لجودتها وقوة أثرها في نفوسهم. لكن أولئك النقاد لم يغفلوا عن إمكانية تدخل أسباب لا علاقة لها بالجودة الفنية في مسألة فرض حفظ قصيدة أو أبيات بعينها، ويمكن الاستدلال على هذه الأسباب في عصرنا الراهن بالقصائد التي تُدرَّس في المناهج الدراسية ويُفرض حفظها على طلاب المدارس والجامعات، فعندما يحفظ الطالب -أو المعلم- في المرحلة الابتدائية قصيدة الشاعر معروف الرصافي التي مطلعها: أكب على الخوان وكان خِفاً فلما قام أثقله القيام فلا يعني هذا بالضرورة أنها قصيدة رائعة أو أنها أجمل ما نظم الرصافي، ولا يمكن أن نقول بأن الرصافي يتفوق على شعراء العراق لمجرد أن جميع طلاب المرحلة الابتدائية في السعودية يحفظون إحدى قصائده. وعندما نحفظ قصيدة أحد الشعراء بعد غنائها أو إنشادها وفرض إذاعتها وعرضها بشكل متواصل في مجموعة من القنوات فلا يعني هذا بأنه أفضل من الشعراء الآخرين الذين يكتبون شعراً جيداً لكنه لم يجد وسيلة للوصول إلينا. وبما أن استخدام مسألة حفظ الشعر أو شيوعه كمقياس للتفاضل بين الشعراء أو كمقياس للاعتراف بالشاعرية للشخص أو نفيها عنه مقياس مُخادع ولا يصح على إطلاقه، فقد تحدث النقاد عن مقاييس أخرى لمعرفة وتحديد الشعر الجيد والشاعر المتفوق، فذكروا أن الشعر الجيد هو "الذي يشتهر في المكان الذي ينشأ فيه وفي غيره من الأماكن"، وكذلك فإن القصيدة الجيدة هي القادرة على الاستمرار على ألسنة الناس في الأزمنة التي تتبع الزمان الذي قيلت فيه. أخيراً يقول الشاعر عبدالله السياري: ما يجرح الكبد يا الحربي ويوجعها إلا صديقٍ زياراته على الحاجه ليصار له حاجةٍ وأبطا مضيّعها تذكرك ثم جالك نافخ أوداجه يامر عليك أمر أبوك، وقال سنّعها وإلى تعذّرت، زعل وقطّب حجاجه!