نحن مصابون بداء النصيحة، غير المطلوبة، أو النصيحة غير المستحقة، أو التي لا تأتي في مكانها، النصيحة غير المطلوبة من أحد، أو ينتظرها أحد. مصابون بداء التدخل في حياة الآخرين، وإتقان هذه التدخلات وجعلها جزءا أساسياً من حياة شخص اعتاد عليها. المتدخلون، لا فرق لديهم بأن يسجلوا متدخلين، أو ناصحين طالما لم يطلبوا من أجل ذلك، هم حضروا، وهم قرروا الإدلاء بما لديهم، والدخول إلى حياة الآخر، أو الآخرين لا يهم من المتدخل فيهم، لأن الأهم هو التطوع دون طلب. كثيرون كلما وجدتهم، أو التقيت بهم حتى صدفة سارعوا لاحاطتك بنصائحهم في الحياة، والصحة، والدين، والسفر، والعائلة، والمنزل، والأصدقاء رغم ان الموقف ولا الظروف يستدعيان ذلك، ورغم أن الحديث لم يتجاوز السلام فمثلاً إن سلمت عليه، فاجأك هل أنت تعبان أو مريض؟ قلت لا، قال أنا شايفك وكلمة شايفك أنه هو فقط الذي يرى ويقرر ويحدد، أنا شايفك متغير، ومصفر قليل، أو نحفان، أو اتميت هذه الفترة، أو مجهد، وعندما ترد عليه أنا بخير وليس بي أي شيء، لا يستمع إليك، بل يقرر العلاج، عليك بتناول كذا وكذا، والابتعاد عن التفكير، والاجهاد و... و... وفلان استعمل هذه الوصفة وتعالج، تغادره أو يغادرك سيان لكن لم تعد تستغرب فالقرار قراره، والنصيحة هو الذي أسداها، والمرض هو الذي شخّصه. في إحدى المرات توقفتُ عند اشارة المرور كالعادة وأضاءت عدة مرات، سيارة بجانبي فتح قائدها الزجاج ليسأل السائق بجانبه عن متنزه ما، وكيف يتجه إليه حيث يبدو أنه ليس من المدينة، فدله على الطريق، وأردف إذا أردت أن تتفسح بعيالك، وديهم المتنزه الفلاني أزين وأفضل ولك أن تدخله من هنا) تدخل في خياراته وخرج عن حدود الاجابة المطلوبة، ولم يطلب منه أن يقرر أيهما أفضل. قد يعترض أحد ويقول إن (الدين النصيحة).. هذا صحيح والجميع يعي ذلك ولكن أين الدين هنا، وأين المبرر للتدخل وليس النصيحة؟ لاعب كرة قدم بعد انتهاء مباراة وهو لم يتجاوز 22 عاماً من عمره يسأله المذيع الضائع أصلاً ماذا تقول لزميلك فلان المنتقل إلى ناديك حديثاً؟ فيجيب دون أن يعي ما يقول (أنصحه.. كان السؤال في طريق وجاءت الاجابة في المسار الآخر الممتد موازياً له، لم تعد النصيحة تأتي من أصحاب الخبرة كالعادة وهي غير ذات قيمة، أو انعكاس على الشخص الموجه له، ولكنها تأتي من أشخاص هم في الواقع ينبغي أن توجه إليهم النصيحة، لأنهم لا يدركون الأشياء، ولكن من منطلقٍ ما عمرياً ربما، أو خلق مكان لهم غير موجود أصلاً يمنحون أنفسهم نفوذاً خاصاً، يتمنون به على الغير، ويفرضونه عليهم. يخلو كثير من الناس رغم سنين عمرهم من عمق التجربة الحياتية ومن تفاصيل الحياة بسلبياتها وايجابياتها، توقفوا عند بناء ما يريدون لأنفسهم من خلال تكوين حياة بوصف وإطار معين وصناعة خاصة تخلو من الأفكار النيّرة، أو الاستفادة من تجارب الآخرين أو الاقتناع بما لديهم وعمقه. توقفت حياتهم بقناعة وتوقف هو عن التعلم أو الاستفادة من الآخرين لأن الخبرة الحياتية في حد ذاتها التي تدفع إلى نصح الآخرين، والتدخل في تفاصيل حياتهم تحتاج إلى مسيرة لا تتوقف من الناصح للتعليم والتعلم، وأيضاً الانفتاح ومعرفة أن كل شخص لابد أن يحظى بنصيحة مختلفة، وحرص على استيعاب عدم تقبل البعض كما يفترض أن يكون التقبل، وأخيراً على من يسهب في تدخلاته ونصائحه ان يستوعب ان الأمور تتغير بسرعة، وان الأهداف التي يريد تحقيقها وهي في العادة شخصية وتحكمية قد لا تتحقق، وستتعثر، ولن تصبح نصائحه سوى تكرار يومي لا يستمع له سواه.