لا شيء يصيبني بالصمت والخرس مثل أن يطلب مني أحد القراء "النصيحة" .. ولا شيء يصيبني بالتلعثم والارتباك مثل أن ينتقد أحدهم بعض الكتاب أو المشايخ ثم يسألني رأيي في الموضوع!؟ .. فأنا (أولاً) مليء بالعيوب والأخطاء ولا أجد نفسي مؤهلا للنصح أو الحكم على أحد .. كما أكره بطبعي ذهنية الوصاية ولا أرتاح لفكرة الحكم على الآخرين من خلال أي منظور شخصي .. أضف لهذا قناعتي الذاتية بأن النصيحة أمر بالغ الحساسية (وسلبياتها أكثر من إيجابياتها) وبالتالي إن لم نستطع تجنبها فيجب أن نقلل منها بنسبة 99% ... فمجرد أن يتقدم أحدهم لنصحك تتشكل لديك آليات دفاع طبيعية وتنتقل لحالة هجوم تلقائية ويتولد لديك نفور مضاد ؛ فأنت تدرك (بطريقة لاواعية) بأن الناصح يضعك بالضرورة في موقف وصاية وإعادة تربية وتأهيل .. فهو يبعث إليك برسائل خفية لا تسمح بها كرامتك (مثل) أنا العارف وأنت الجاهل، أنا الفاضل وأنت المارق، أنا من يخاف على سمعتك وسمعة عائلتك وربما كيف تربي أطفالك وتلبس زوجتك أكثر من والدك وأي قريب يهمه أمرك !! ويزيد الطينة بلة أن يضع الناصح نفسه في موضع الرسمي أو المقدس أو الصفوة المختارة .. ويسوء الوضع أكثر حين يحدث كل هذا علناً بحيث تتقلص أهميتك (إلى مجرد نموذج كاريكاتيري) يوصل من خلاله سعة علمه وسطوته للحاضرين!! ... وبطبيعة الحال هناك من سيقول (الدين النصيحة) وقالوا في الأمثال (النصيحة بجمل) .. غير أن هناك أيضاً من اتخذ من الأمر رخصة عمل وأسلوب حياة بحيث خلط النصيحة بالتشهيروالاكراه والتدخل في شؤون الآخرين. أما الأصل في النصيحة فهو أن لها شروطاً وضوابط (لو طبقناها) لتقلص حجمها إلى نسبة ضئيلة مما نراه في مجتمعنا : فالنصيحة مثلاً يجب أن تأتي من شخص متخصص وعالم في مجاله / وليس من شخص أدنى معرفة أو مراهق لبس بالأمس ثوب الوصاية... كما يجب أن تكون في "مخالفة" صريحة وواضحة ومتفق عليها / وليس لمجرد الاحتمال وسوء الظن وتغييب بقية الآراء.. ولا يجب أن توجه بالاسم (أو بطريقة مباشرة) بل من خلال التعميم والتعريض والكناية اقتداء بفعل المصطفى صلى الله عليه وسلم (مابال أقوام يفعلون كذا وكذا)... كما يجب أن توجه في السر والخفاء ولا تذكر علناً على الملأ / أو تنشر في الصحف ووسائل الإعلام بدعوى "النصيحة" ... أما النقد ذاته فيجب أن يتركز على السلوك وطبيعة المشكلة / وليس على ذاتية الفاعل وحساب كرامته .. (والتناصح) لا يعني استئثارك بكل الوقت والموقف بل يجب أن تصمت قليلاً لسماع الرأي المقابل (وتفتح ذهنك لفهم وجهة نظر الطرف الآخر) لاحتمال امتلاكه رأيا لا تعرفه أو عذرا لم تتوقعه! أيضا النصيحة لا تأتي بطريقة التهديد أو شرط القبول أو اتخاذ الإجراء اللازم.. فأسلوب كهذا يبلور مشاعر الكرة والحقد ضد الناصح (ويحول المنصوح إلى بوق دعاية سلبية جديد ودائم)! ثم لماذا كل هذه الاحتمالات الخطيرة!؟ .. لماذا تضع نفسك في هذا الموقف منذ البداية؟ .. أليس من الأفضل أن تقاوم رغبتك في النصح والوصاية وتفكر في أسباب ظنك السيئ وفهمك الخاطئ ل(بقية الخلق) !؟ ... وفي الحقيقة ... ما من شيء أسهل من إلقاء النصيحة وما من شيء أصعب من تقيد صاحبها بها . وما أراه شخصيا أن الناس لم يعودوا هذه الأيام يتقبلون ذهنية الوصاية والوعظ المباشر.. وقبل أن يفكر أحدنا في تقديم النصيحة عليه التفكير في تداعياتها السلبية (فرب نصيحة سببت جفوة وقطيعة، ورب نصيحة كشفت سراً وهتكت مستوراً، ورب ناصح أكثر على الناس فلم يقيموا له وزناً ولم يفتحوا له قلباً) !! ... وخذها "نصيحة" .. ما من أمة كرمت ناصحاً أو أقامت تمثالاً لناقد ...