حتي وهم في غمار انشغالهم باستقبال باب الفاتيكان، وجد اللبنانيون وقتاً للتعليق على تصريح لأحد مستشاري المرشد الإيراني خامنئي قال فيه «إنه في حال اعتدت إسرائيل على إيران، فباستطاعة حزب الله أن يرد بسهولة عليها». كان جمال الدين الأفغاني يقول: قاتل الله الحدّة، فكثيراً ما غلبت الفطنة. ويقول اللبنانيون اليوم: قاتل الله المذهبية، والتبعية للأجنبي، وسائر أنواع الضعف البشري، فكثيراً ما غلبت الوطنية والعقلانية! وقد تساءل اللبنانيون عما إذا كانت «السهولة» تنقص إسرائيل للرد على حزب الله عند ضربه لها بالصواريخ، وعما إذا كان الرد الإسرائيلي سيقتصر ساعتها على ضرب مخابئ صواريخ حزب الله وحدها، أم أنه سيتجاوز ضرب هذه المخابئ، إلى ضرب المرافق والمؤسسات العامة، من مطار ومرفأ وكهرباء وماء وسوى ذلك مما يشلّ الحياة العامة، ويعيد لبنان بلا شك سنوات كثيرة إلى الوراء. وتساءل هؤلاء اللبنانيون: هل هناك جماعة أخرى في التاريخ القديم والمعاصر تُؤْثر مصلحة بلد آخر على مصلحة بلدها، ولدرجة التبعية المطلقة لأوامره؟ إذ ماذا يعني لفت نظر الإسرائيليين إلى كون حزب الله جاهزاً للرد، «وبسهولة» عليهم إذا ما ضربوا إيران، غير أن حزب الله قوة عسكرية خاضعة لهم، مؤتمرة بأوامرهم، تستطيع أن تُنزل بهم من الضرر أكثر مما يتصورون؟ لا أحد يُنكر «سهولة» حزب الله في تحريك صواريخه وتوجيهها باتجاه إسرائيل. ولأنه آلة طيعة بيد الإيرانيين، ومزوّد بعشرات الألوف من الصواريخ، فإن إطلاق هذه الصواريخ لا يكلفه سوى عشرات من أتباعه، هذا إذا افترضنا أنه ليس لديه خبراء إيرانيون متخصصون بالتعامل مع هذه الصواريخ. ولكن أياً كان مُطلق هذه الصواريخ، فإن لبنان كله سيدفع الثمن، وسيكون الثمن فادحاً بلا شك. والسؤال هو: ما الذي سيجنيه لبنان، ومعه القضية الفلسطينية، إذا تدخل حزب الله في نزاع عسكري متوقع بين إسرائيل وإيران، بل ماذا سيجنيه الحزب نفسه ومعه الطائفة التي ينتمي إليها؟ لقد صرح الأمين العام للحزب حسن نصرالله قبل أيام قليلة «إن إسرائيل ستندم إذا اعتدت على إيران». والتصريح لا يحتاج إلى شرح فنصر الله يهدد إسرائيل بصواريخه. ولكن ماذا عن قدرة إسرائيل العسكرية وإمكانية ردها؟ إسرائيل تستطيع أن تتحمل، ولكن أي قدرة تحمُّل لبلد مثل لبنان أعزل فقير في موارده، واقع تحت عبء مديونية هائلة (ستون مليار دولار)، أهله مشردون في سبيل لقمة العيش تحت كل أفق؟ لا يفكّر حزب الله بكل ذلك، إنّ من يستمع إلى خطاب هذا الحزب المنخرط في الدفاع عن سياسة إيران، وفي إدانة سياسة الشيطان الأكبر، لا يجد سوى هوة شاسعة بين الخطاب اللبناني والعربي العام، وبين هذا الخطاب. هوة وغربة حولتا حزب الله داخل المجتمع اللبناني إلى «غيتو» منعزل يتكلم لغة غير اللغة السائدة، ويحلل ويناقش ويبرر ويدافع ويدين، ما لا يعني الجمهور اللبناني العريض في شيء. فهذا الجمهور منصرف إلى ما ينصرف إليه الناس عادة، وهو تدبير الحياة اليومية وقضاء عطلة أسبوع سعيدة مع الأهل والأصدقاء، في حين أن الحزب يتهيأ لحرب لا تنتج سوى دمار من نوع الدمار الذي يلحقه صديق الحزب بشار الأسد بالمدن والقرى السورية في الوقت الراهن. لم تحقق إيران من الأرباح والفوائد ما حققته في لبنان. صحيح أنها خسرت مليارات الدولارات في إنشاء حزب الله وتزويده بالسلاح والمال وشراء الأنصار، ولكنها ربحت ما يشاهده العالم كله بوضوح اليوم: فرقة عسكرية كاملة التجهيز مستعدة للموت في سبيلها والانتقام بضراوة ممن يتصدى لمخططاتها. وفي الوقت الذي تقول الأخبار الأخيرة إن سفناً حربية وحاملات طائرات وكاسحات ألغام تتجمع الآن في مياه الخليج، قريباً من مضيق هرمز، استعداداً لاحتمال ضربة إسرائيلية متوقعة لإيران، فإن إيران تملك فرقة عسكرية تابعة لها تربض قرب حدود إسرائيل تستطيع أن تُلحق بإسرائيل أفظع الأذى. فهل هذا قليل؟ ولكن أليس للأرض التي يقف عليها حزب الله حقوق عليه؟ ألا يستحق لبنان أن يفكر أبناؤه بمصلحته، وأن يُعلوا هذه المصلحة على مصلحة أي بلد أجنبي آخر؟ وفي الموازين العليا للولاءات: هل على الشيعي اللبناني أن يكون موالياً لإيران، أم موالياً للبنان؟ وما الذي سيجنيه هذا اللبناني الملتحق بإيران، إذا ردت إسرائيل على رده، غير الخراب والدمار؟ كان جمال الدين الأفغاني يقول: قاتل الله الحدّة، فكثيراً ما غلبت الفطنة. ويقول اللبنانيون اليوم: قاتل الله المذهبية، والتبعية للأجنبي، وسائر أنواع الضعف البشري، فكثيراً ما غلبت الوطنية والعقلانية!