مملكتنا الحبيبة مترامية الأطراف، وتجمع مناطق مختلفة الثقافات، ومتنوعة التضاريس ، والتقاليد والعادات ، وفيها مذاهب دينية وفكرية مختلفة، بل ومتضادة حينا ، كلها اجتمعت تحت هذه الراية الخالدة التي صدع بها حبيبنا صلى الله عليه وسلم ، فجمعت الناس تحت لوائها، واحتوتهم في جميع أحوالهم، حتى إن المنافقين كانوا يعيشون بين أهلها يعرفونهم بسيماهم ، لكنهم يلتحفون عباءة وحدة نسج خيوطها وحاكها أجمل حياكة هذا الدين الحنيف. فهذه الراية التي ترفرف بكلمة التوحيد ، جللت سماء هذا الوطن المجيد، مع هذا الاختلاف في بيئته ومذاهب أهله . ولا ريب أن التأسي به صلوات الله وسلامه عليه أصل إسلامي ، بيد أن العلماء قديما وحديثا اختلفوا في ماهية هذا الاتباع والتأسي، وجاء التفريق بين ما يكون مجالا للتأسي وما هو جبلة وعادة بشرية لا يدخلها التأسي. ومهما ذكرنا من اختلافهم في ذلك فلن نختلف على أن من فعل شيئا يقصد به التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو مأجور على ذلك ، لكننا سنقف معه في حوار إن أراد أن يلزم الناس بهذا التأسي، إن كان مما اختلف في كونه أسوة أم لا. وليتضح ذلك أمثل بما ذكر في لقاء فضائي قريب، مع بعض الأحبة ممن ينتسب إلى الصوفية ، لأناقش المسألة، لا لأفرض رأيا، أو لألزم أحدا بمفهومي، ولكن من باب الحوار، والرأي. فالشيخ ( الصوفي ) الجليل، يلبس العمامة ، وحين سئل عن سر لبسه لها، وكذا من ينتسب إلى ( الصوفية ) في الحجاز، المنطقة الأغلى على قلوبنا من هذه المملكة الغالية ، ذلكم أن اللباس المشتهر في مملكتنا هو الغترة، أو الشماغ، كان جواب الشيخ الفاضل أن العمامة سنة نبوية، فهم على آثارها يقتدون. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بلا شك كان يلبس العمامة ، وفي كتب الفقه حديث عنها وعن المسح عليها ، فلا جدال في أن العمامة لباس عربي أصيل، وأن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتم ، وشرحت كتب السنة والفقه كيفية اعتمامه، بأبي هو وأمي. بيد أنه يبدو لي أن الجواب نوع من هروب، ويعجبني أن يكون المرء صريحا وواضحا، فلو كان جواب الشيخ المبجل أن هذا لباس توارثناه في (منطقتنا) كما توارث قوم في مناطق أخرى من هذا البلد الكبير العظيم لباسا وفنونا وتراثا، لكان الجواب أقرب إلى الإقناع، ويمكن أن يوصل إلى الاقتناع. لكن الذي سُكت عنه، أو حِيد عن جوابه، هو التميز الديني، لا مجرد شكل اللباس وماهيته، وبمعنى أوضح: هل لبس العمامة يراد به التميز الديني، بحيث يرمز إلى معتقد أو مذهب، فالجواب الذي لا حيدة عنه حينئذ هو: نعم. وهذا هو الذي جاء بالسؤال أصلا. فالمذهب له دور في اختيار اللباس، والتميز به، كأنه إشارة إليه، وعنوان له، ولو كان مجرد لباس اختاره المرء لأن أهل بلده يلبسونه، أو لأنه اختيار شخصي له لما كان النقاش أصلا، ولما طرح السؤال ابتداء. وهذا ينطبق على معتنقي المذهب الشيعي في بلادنا، حيث يلاحظ تمسكهم بلباس معين يشير إلى المذهب، ويعلن عنه ويميزه. والاحتجاج بسنته صلى الله عليه وسلم فيه نظر، من حيث إن العمامة كانت لباس قومه، ولم تكن لباسا شرعيا مخصوصا، أما ترى النص جاء بالإزار والرداء في الحج والعمرة، فهنا يكون ذلك اللباس شرعيا، فالمعلوم أن اللباس لم يحدد في الشريعة، فقد كانوا يلبسون الثياب، والإزار، والرداء، والقمص، والسراويلات، والبرانس، كما هو معلوم في كتب اللباس والزينة من كتب الفقه، وفي القرآن ذكر لبعضها، مثل السرابيل، وأطلق اللباس (لباسا يواري سوءاتكم وريشا) وأطلق الزينة (خذوا زينتكم عند كل مسجد). والقصد من هذا ونحن في زمن الحوار الذي تبناه قائد هذه الأمة السعودية، والذي بدوره دعا إلى نبذ التطرف ، وحرب الطائفية ، وشدد على قطع دابر التمييز والتصنيف ، فإني لا أخال هذه الألبسة إلا مصنفة ومفرقة ، ومعينة على الطائفية، توقد نارها ، وتؤجج اشتعالها. فلو اقتُصر في المحافل والمقابلات الرسمية على اللباس الرسمي - الزي السعودي – ثوب وغترة - أو شماغ - ومشلح، لكان أدعى في عدم تمييز طائفة عن أخرى، وأقرب إلى اجتماع الكلمة تحت سقف الوطن، وفوق ترابه. نعم للمرء الحق أن يلبس ما شاء مما تعود لباسه في محيط مجتمعه ، ومكان تعليمه ، لكن لا في مقابلة رسمية، وفي غير محفل رسمي ، يكون فيه تباين المنطقة ، وتشم رائحة الطائفية المفرقة، مع بقاء اعتزاز كل واحد بمذهبه، وانتصاره له ، وتمسكه به ، فلست أناقش هذا ، ولا أحجر عليه.