وصف عميد معهد تعليم اللغة العربية في جامعة أم القرى الداعية الدكتور عادل بن أحمد باناعمة ما صاحب الخلافات الفقهية قبل حسمها بالأمر الملكي، بأنه تنابز وكيل للشتائم وتشكيك في النيات، مشيرا إلى أن ما حصل فجور في الخصومة وإقذاع في السباب ظهر في ثوب الاحتساب أو محاربة الغلو. وأشار باناعمة في حوار ل «عكاظ» إلى أن توحيد الناس على قول واحد أمر صعب ومستحيل، موضحا أن ظهور الخلافات أمر صحي وموجود منذ عهد الصحابة والتابعين والصالحين من سلف الأمة. ولاحظ الداعية وعميد معهد تعليم اللغة العربية ازدياد وتيرة انفتاح الإعلام الإسلامي على أشكال برامجية تلفزيونية متجددة وتزايدها بشكل واضح، إلا أنه عاب عليها بطء صناعة النجوم وقلة احترافها، مشيرا إلى أن امتلاك الإعلام وتوظيفه بالصورة المثلى يكون بالخضوع لشرطه وليس بإخضاعه لشرط موظفه. ورأى باناعمة أن كلمة الشيخ لم يعد لها ثقلها الذي كان، مشيرا إلى أن الجيل الشبابي بدأ يبحث عن التوجيه في فضاءات أخرى، لافتا إلى أن تخصيص المشايخ بزي واحد والنظر إلى ما سواه بأنه مخالف للتعاليم الإسلامية أمر خاطئ. ودعا الداعية باناعمة إلى تغيير نمط الخطاب الدعوي الموجه إلى الشباب، مشيرا إلى أن اختلاف العصر يحتم تبديل أسلوب مخاطبتهم، معتبرا أن مخالفة هذا النهج يخلق نفورا بين الدعاة والشباب. • بعض المنتسبين للعلم الشرعي حولوا الخلافات الفقهية إلى مساحة للتناحر والتشكيك.. ماذا تقول لهؤلاء؟. - يسوء المتابع للخلافات أمرانِ: أولهما: تلك النبرة الكريهة البغيضة التي حولت الخلاف الفقهي إلى مساحة للتنابز والتشاتم والتشكيك في النيات والأهليات، والطعن في الأعراض. ومن عجب أن تجد في تجاذب فقهي شرعي في مسائل خلافية تجهيلا وتفسيقا وتسفيها وسخرية وتعريضا بالأعراقِ والجنسيات. ويجد المتابع نفسه بين قذائف الرجعية والانغلاق والعيش في غير العصر وصواريخ الجهل وتتبع الشواذ واتباع الهوى! وغير ذلك مما يفوه به بعض صغار الكتبة وحتى بعض المتصدرين للتوجيه والإرشاد!. لقد كان جزء مما حصل فجورا في الخصومة، وإقذاعا في السباب، ظهر وللأسف في ثوب الاحتساب أو في ثوب محاربة الغلو!. والذي يسوء أكثر أن صوت أكثر العقلاء من أهل العلم في إنكار هذه البذاءات كان خافتا أو على الأقل كان أقل مما يجب، وربما كره بعضهم مثل هذا ولكنه اعتبره (تأديبا) يستحقّه هذا الذي جاء بقول مخالف للسائد المشهور!. وثاني ما يسوء: فشو التعالم، والجرأة على القول في مسائل الشرع، والاستطالة على النصوص إما ردا وإما تأويلا وتفسيرا على غير أساس متين من بصر بأصول الاستنباط وقوانينه. بل صار الشاب اليافع الذي لا تتجاوز ثقافته مواقع الانترنت وصفحات الفيس بوك يباشر الفتوى والتحليل والتحريم والاستنباط والاستدلال ! ويصنف المفتين إلى درجات وطبقات بحسب ما يحلو له!. ظهور الخلافات أمر طبيعي وصحي، وما فتئ العلماء مذ كانوا يختلفون علنا، ويرد بعضهم على بعض، بل إن الصحابة رضي الله عنهم وهم خير هذه الأمة قد اختلفوا علنا، ورد بعضهم على بعض، وحسبنا اختلافهم الكبير في الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختلافهم في قتال مانعي الزكاة، واختلافهم في سبي أهل الردة، وقسمة الأراضي المفتوحة، ووقع الخلاف كذلك بين أعيانِ الفقهاء من الصحابة فاختلف عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في أكثر من مائة مسألة، والخلاف بين ابن عمر وابن عباس ظاهر بين حتى قدر الباحثون أن لكل منهما مدرسة في الاستنباط تختلف عن الآخر، وردود عائشة رضي الله عنها على عدد من الصحابة مشهورة محفوظة. وكل تلك الخلافات ظاهرة معلومة تناقلتها الأجيال. إذن لا مشكلة في ظهور الخلاف بل الذي أحسبه أن ظهوره أمر صحي يعلم الناس سعة الشريعة، وسماحة الدين، وواهم من يظن أن إطباق الناس على قولٍ واحد في كل مسألة هو أحفظ للدين، وأسلم للشريعة، وأحوط للملة. كلا بل ذلك يفضي إلى كثير من الجمود، وضيق العطن، وسوء الظن بالمخالف والاعتداء عليه. • مادمنا في سياق وسائل الإعلام، ما تقويمك لتجربة الإعلام التلفزيوني الإسلامي؟ - هذا سؤال يحتاج إلى إعلامي مخضرم، ومتابع دقيقٍ، ولست هذا ولا هذا. ولكن يحسب لهذه التجربة أمرانِ اثنان: 1- ازدياد وتيرة الانفتاح على أشكال برامجية تلفزيونية متجددة، فلم يعد الإعلام التلفزيوني الإسلامي مقتصرا على برامج إلقائية أو وعظية بل بات التنوع ظاهرا وواضحا. 2- الامتداد المساحي فهناك باستمرار قنوات جديدة، وبرامج جديدة، على تفاوت بينها جودة وتأثيرا. وهناك أيضا شرائح جديدة لا تصنف تقليديا ضمن الصف الإسلامي تنضم للإعلام الإسلامي منتجة أو متابعة. ويحسب عليها أمرانِ أيضا: 1- قلة الاحتراف؛ فأكثر العاملين في الإعلام التلفزيوني الإسلامي ليسوا متفرغين له، وكثير من المتصدرين لقيادته ليسوا مختصين لا أكاديميا ولا عمليا. 2- بطء صناعة النجوم؛ فرموز الإعلام التلفزيوني الحقيقيون قليلون ومتكررون، وكان حق هذا الامتداد الذي أشرت إليه أن تصحبه عناية جادة بصناعة رموز محترفة. • ومن أجل تطور أكبر للإعلام الديني بماذا تنصح؟ يحتاج الإعلام الديني إلى إدراك أعمق لحقيقة مهمة، وهي أن امتلاك الإعلام وتوظيفه بالصورة المثلى يكون بالخضوع لشرطه وليس بإخضاعه لشرط موظفه. وهي مفارقة قد تبدو غريبة حيث يكون الخضوع امتلاكا، والإخضاع تضييعا! ولكنها جوهر كل نجاح إعلامي. إذا أردت أن تصنع إعلاما إسلاميا ناجحا فاصنع أولا إعلاما ناجحا ثم وظفه لرسالتك، ولا تطمع في أن تكون مؤثرا إعلاميا وأنت تكتفي ببث رسائلك عبر (وسائط إعلامية) دون أن تكون صنعت النجاح الإعلامي. • الحديث عن الإعلام الإسلامي الناجح يجرنا إلى إشكالية القطيعة بين ما يقدمه المشايخ والدعاة وبين الجمهور.. هل تعتقد أن هناك استجابة مكافئة لهذا الزخم الدعوي ؟ أم أن المجتمع أخذ يبتعد عن المشايخ ؟. - مشكلتنا أننا لا نملك مؤسسات بحثية تستطيع أن تعطينا دراسة علمية، ونتائج موثوقة، وكل ما يقال في هذا الاتجاه هو انطباعات ذاتية. لا أظن أن هناك (قطيعة كلية) فالبرامج الدينية ما تزال تحظى بجماهيرية عالية، وما تزال بعض الرموز الدعوية مخترقة لشرائح اجتماعية واسعة. ولكنني أتفق معك على أن (كلمة الشيخ) لم يعد لها اليوم ثقلها الذي كان! وعلى أن الجيل الشبابي خاصة بدأ يبحث عن التوجيه في فضاءات أخرى!. • أليس في إصرار المشايخ على التميز بشكل ومظهر معين من أسباب هذا الانفضاض الشبابي الذي أشرت إليه؟ ما الذي يمنعهم من كسر هذه النمطية في الشكلِ؟ وما المشكلة في داعية يلبس البدلة مثلا؟. - ألا تترك هذه الحدية والقطعية في التحليل وافتراض أسباب المشكلات؟ دعني أبين وجهة نظري أولا في هذا التميز الشكلي. مسألة تخصيص المشايخ بزي يمكن النظر إليها على مستويين: المستوى الأول: أن يكون ذلك مجرد عادة أو عرف يدرك فاعلها ومقرها أنها ليست ذات بعد ديني، أو تعبدي، وهذا قدر لا بأس به. المستوى الثاني: أن يتحول ذلك إلى اعتقاد مفاده أن تميز المشايخ بزي مخصص يعرفون به هو أقرب للسنة، أو أسعد بأحكام الإسلام ومقاصده، بحيث ينظر إلى من خالفه على أنه خارج عن هدي الشريعة وصراط السنة، أو حتى عن سننِ المروءة، فهذا ما أظنه غير صواب، بل أحسبه خطأ محضا يحسن التنبيه إليه وتجنبه، وذلك لعدة أسباب: كون الألبسة من عوائد الناس وجبلاتهم التي لا تدخل في مسائل التعبد إلا فيما صح النهي عنه ، وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك هو من باب أفعال الجبلة التي لا تدخل في باب التسنن كما هو قول الجمهور ، وإن كانت قد تدخل في باب المحبة. تنوع ألبسته صلى الله عليه وسلم واختلافها مما يدل على عدم القصد إلى لباس معين، فقد لبس صلى الله عليه وسلم القميص، والحبرة، والحلة الحمراء، والإزار والرداء، والجبة الرومية الضيقة، والفروج، والفرجية، والقباء، ولبس الخميصة المعلمة والساذجة، ولبس ثوبا أسود، ولبس الفروة المكفوفة بالسندس، والسراويل. ولبس صلى الله عليه وسلم القلنسوة بغير عمامة، والعمامة بغير قلنسوة، وكان يرخى ذؤابة العمامة بين كتفيه حينا وحينا لايرخيها، وحينا يلتحي بها تحت الحنك. [انظر في كل ما سبق الشمائل المحمدية وزاد المعاد]. عدم تميز لباسه صلى الله عليه وسلم عن لباس من حوله، فقد صح عند البخاري أن رجلا قدم على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم دخل فقال: أيكم محمد ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكىء بين ظهرانيهم. فهذا واضح الدلالة فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يمتاز عن بقية قومه بلباس ما. وقد قال أحد أشياخنا يوما: إنك لو بحثت لما وجدت فرقا بين عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمامة أبي لهب!. لبس الأشراف والكبار من هذه الأمة عشرات الألبسة المنوعة ومنها ما يدل اسمه على كونه أعجمي الأصل، كالطيلسان واليلمق وما أشبههما، بل قد كان الطيلسان لباس كثير من الفقهاء في زمنٍ من الأزمنة. ومن خلال كل ما سبق يظهر أن الأقرب للصواب أنه ما ثمة لباس مخصص هو في ذاته لباس التدين والفقه والعلم، وإنما تختلف ألبسة الناس باختلاف عصورهم وأزمنتهم وأمكنتهم. وقد سمعت شيخي الددو يقول: إن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحت عليهم الدنيا غيروا هيئاتهم وألبستهم ولم يبقوا على ما كانوا عليه، وكل ما يتعلق بالحياة والمدنية وترتيبات الناس في حياتهم يتغير باختلاف الظروف، ولا يلزم أن يكون ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو المطلوب في كل عصر .اه كلامه. وعليه فإن الخروج عن الثوب وملحقاته ليس خروجا عن سنة ولا عن هديٍ نبوي، بل هو فعل دنيوي سائغ يمارس فيه الإنسان حريته التي كفلها له الشرع مادام لم يقع فيما صح النهي عنه. سواء في ذلك الداعية أو غيره. ولايمنع هذا أن تكون للإنسان موازنات ومراعاة لبعض الأحوال والظروف والعوائد على ألا تتحول هذه الموازنات إلى سننٍ شرعية ملزمة لا تسوغ مخالفتها. ولكن كل هذا التقرير لايلزم منه بحال أن يكون (الثوب) و(البشت) هما سبب القطيعة بين الدعاة والناس كما ذكرت أنت! فهذه مبالغة كبيرة جدا، نعم.. قد يكون تبسط الداعية في ملبسه ومجاراته لمن حوله نافعا ومؤثرا. ولا أفهم وجها للتشنيع والتبشيع والتفظيع الذي يشنه بعض الأخيار على من اختار في هذا العدول عن الثوب في بعض أمره، كما لا أفهم اعتبار لبس غير الثوب في ذاته عملا تصحيحيا، ومذهبا إصلاحيا جديرا بالحفاوة. الأمر أهون من هذا.. • إذا لم يكن (الشكل) هو مفتاح التواصل مع الشباب، فما الطريقة المثلى في التواصل معهم، خاصة وأنك أحد اللاعبين الفاعلين في محاورة الشباب؟. - لست أوافقك في هذه الدعوى! فثمة غيري كثيرون ممن هم أقرب إلى الشباب وأقدر على مخاطبتهم بلغتهم. ولكنني قد أدلي بفكرة صغيرة في هذا الاتجاه. مازلت موقنا أن (الوصول) إلى عقول الشباب وقلوبهم ليس سبيله (الوسيلة)، بقدر ما سبيله (الصياغة الصحيحة) للفكرة. من طبيعة الأجيال أن تتفاوت في أفكارها ورؤاها ومعاييرها ونظرتها للحياة والأحياء، وعندما يأتي الداعية أو المثقف أو الإصلاحي وهو يحمل منطقا غير منطق الشباب ومعايير سوى معاييرهم فمن الصعب أن نتوقع استجابة أو تأثرا. لكن.. عندما تصاغ الفكرة بطريقة تنطلق من رؤية الشباب ومفاهيمهم فإن هذا أدعى لاستجابتهم. وعندما تمتلك هذه الفكرة الإيجابية المصوغة بطريقة صحيحة فحينئذ ستصل إلى الشباب سواء تحدثت إليهم في مقهى أو في مسرح أو قاعة أو عبر قناة فضائية أو حتى على منبر الجمعة. مشكلة بعضنا اليوم أنه يتعامل مع الجيل الشبابي القادم على أنهم (طائفة من الأبناء) عقوا آباءهم ولا بد من إعادتهم إلى (بيت الطاعة)! أو على أنهم طلاب مدرسة يجب على أستاذهم أن (يسيطر) عليهم!! وهذا منطق لا يمكن أن يتجاوب معه الشباب اليوم. الشاب اليوم يبحث عن صديق يناقشه ويفاتشه وقد يقبل منه التوجيه، ولا يرضى أن يكون تلميذا لأستاذ، وسواء أعجبك هذا الواقع أم لم يعجبك فإن عليك التعامل معه إذا أردت الوصول إلى نتيجة إيجابية. الشاب اليوم يتساءل ويراجع ويفكك كل ما حوله، ليس من السهل أن يرتهن لك فقط لأنك تكلمه باسم الدين، عليك أن تكون مقنعا وإلا فستخسره ويخسرك!.