يحرص عدد من الشعراء على التفاخر الدائم بوفرة وغزارة إنتاجهم الشعري، فتجد الواحد منهم حريصاً أشد الحرص عند إجراء أي حوار معه على ذكر إحصاء دقيق لعدد قصائده التي نظمها طوال مسيرته الشعرية والإشارة إلى أكثر عدد ممكن من الأبيات استطاع بلوغه في قصيدة واحدة، ويأتي هذا الفخر والاعتزاز على أساس أن القدرة على الاستمرار في نظم الشعر و(تمطيط) القصيدة عمل خارق لا يستطيعه غير عظماء الشعر، مع أن الواقع وتاريخ الشعر يُثبتان خلاف ذلك ويؤكدان على مسألة التركيز والإيجاز وعلى أن الغزارة لا تعني تميزاً أو تفوقاً في جميع الأحوال، فكم من شاعر طبع له عشرات الدواوين التي تغص بآلاف القصائد دون أن يكون لها أي قيمة أو أي أثر في نفوس المتلقين. ومن الحوادث الشهيرة التي تُدلل على استبعاد ربط عملية الإبداع بمسألة الغزارة وكثرة عدد القصائد ما يروى عن أبي العتاهية -الذي قيل بأن الشعر "يخرج منه كمخرج النفس"- أنه افتخر في مجلس الرشيد فقال: "يا أمير المؤمنين هذا شاعر البصرة محمد بن مبادر يقول قصيدة في كل سنة، وأنا أقول في كل سنة مائتي قصيدة"!، فرد عليه الأخير بسخرية قائلاً: "لو كنت أقول كما تقول: (ألا يا عتبة الساعة/أموت الساعة الساعة) لقلتُ كثيراً" ولكني أقول: ابن عبد الحميد يوم توفى هدّ ركناً ما كان بالمهدودِ ما درى نعشه ولا حاملوه ما على النعش من عفافٍ وجودِ وقد أُعجب الرشيد برد ابن مبادر الجميل وبمقدار ما يحمله من وعي على أن الإبداع لا يُمكن أن يُقاس بالكثرة والكم. وكذلك فقد عُني ابن رشيق القيرواني قديماً بالبحث في مسألة الغزارة وتطويل أبيات القصيدة وذكر بأن بيتاً جيداً يكون "مقام ألفِ رديء"، وأورد كذلك آراء عدد من الشعراء حول هذه المسألة من بينهم ابن الزبعرى الذي قيل له: "إنك تُقصر أشعارك"، فأجاب: "لأن القصار أولجُ في المسامع، وأجولُ في المحافل"، واتفق معه أيضاً الشاعر الجمّاز الذي يقول في أحد أبياته: (أقول بيتاً واحداً أكتفي/بذكره من دونِ أبياتِ). إذن ينبغي أن يتجه اهتمام الشاعر وحرصه نحو مستوى القصيدة وبالجديد الذي يُمكن أن تُضيفه وليس إلى عدد القصائد أو الأبيات داخل القصيدة الواحدة، فالبيت الجيد الواحد في ميزان الإبداع الشعري يُمكن أن يرجح بمئات القصائد المسلوقة أو الرديئة. أخيراً يقول المبدع ضويحي العماني: سبحان من يعطي القبول المخاليق وسبحان من يفرق عطا عبد عن عبد بعض الأوادم شوفها يجلي الضيق وبعض الأوادم شوفها يدبل الكبد