حين نتعرض لمشكلة ما نفضل غالبا استيراد الحلول - وسماعها من الآخرين - بدل التفكير فيها والبحث في حلولها وابتكار مايناسبها.. وكما يحصل هذا على مستوى الأفراد والأشخاص يحصل أيضا على مستوى الدول والمجتمعات.. فهناك مجتمعات تفضل استيراد الحلول من الخارج، في حين تفضل أخرى البحث عنها من خلال معاهد خاصة ودراسات متخصصة بهذا الشأن أو ذاك .. ومن هنا ظهر مصطلح "خزانات" أو "صهاريج التفكير" الذي يطلق على أي مجموعة ذكية ومختارة تبحث في قضية دولية خاصة.. وقد تكون هذه القضية سياسية أو اقتصادية أو إقليمية يتم بحثها من قبل معهد متخصص أو قسم أكاديمي - أو حتى لجنة تابعة لوزارة الخارجية أو الاستخبارات -. وتتركز مهمتها غالبا في تقديم النصح لرئيس الدولة - أو الجهاز المعني - ووضع تصور لما ستؤول إليه الأوضاع في الدول الأخرى. وبهذه الطريقة يمكن للدول الكبرى استباق الأحداث وتوقع النتائج ووضع السياسات المناسبة لها. ورغم أن "صهاريج التفكير" مصطلح جديد نسبيا إلا أن الفكرة بحد ذاتها قديمة قدم الحضارات نفسها . فحين تتجاور حضارتان مختلفتان سرعان ما يستشعر الحاكم في إحداهما - أو كلتيهما - ضرورة معرفة الآخر وتقييمه من الداخل (تأسيساً على حقيقة أن المعرفة قوة) .. ويمكن القول إن بيت الحكمة في بغداد كان (أول مؤسسة استشارية) قدمت للعباسيين المعرفة الضرورية للتعامل مع الحضارات والإمبراطوريات الأخرى . أما في العصر الحديث فاعتمد الاستعمار الأوروبي على جواسيس ومستشرقين عملوا كخزانات تفكير متحركة ادعوا الاسلام وتعلموا العربية وعاشوا بين البدو والحضر (مثل جبريلي الإيطالي وتاميزيه الفرنسي ولورنس العرب الانجليزي) !! غير أن أمريكا طورت - في الخمسين عاما الماضية - مفهوم خزانات التفكير كعمل مؤسساتي وجهد جماعي منظم . ففي حين اعتمد الأوروبيون على الأعمال الفردية للمستشرقين والتقارير الشخصية للجواسيس بلورت أمريكا مؤسسات أكاديمية متخصصة وفرق بحث موجهة .. وتتركز معظم خزانات التفكير الأمريكية في واشنطن العاصمة والأقسام السياسية في الجامعات الكبرى. وفي حين يعمل بعضها بشكل مستقل ومحايد (ويموّن نفسه ذاتيا من خلال الاستشارات والهبات الخاصة) يرتبط الآخر مباشرة بالوزارات الحكومية والجهات الرسمية - خصوصا وزارة الخارجية والمخابرات الأمريكية ووكالة الأمن القومي- .. وكما توجد معاهد متخصصة في الشؤون الصينية واليابانية والروسية توجد معاهد متخصصة في الشؤون العربية والإسلامية - أو في جوانب فرعية منها كالنفط والتيار الديني والصراع العربي - الاسرائيلي . وهذه المراكز تضم أذكى العقول المتخصصة (قسم منهم عرب) والعديد من الخبرات السياسية المتقاعدة (مثل جيمس بيكر وهنري كيسنجر والكسندر هيج) .. ومن المراكز المتخصصة في الشؤون العربية مركز ( CSIS) للدراسات الإستراتيجية، ومعهد واشنطن للدراسات الشرقية (WINEP) ومعهد بروكينغز وسابان للشرق الأوسط (Brookings Institute) ومؤسسة كارنيجي للسلام (Carnegie for International Peace) ومعهد بيكر للسياسات العامة (Baker Institute) ... وكنتُ شخصيا قد اطلعت على تقارير كثيرة خاصة بالسعودية أصدرتها معاهد بحث أمريكية متخصصة أتذكر منها: السعودية في القرن الجديد، السعودية بعد الجيل المؤسس، السعودية والنفوذ الإيراني، دول الخليج بعد النفط، الحراك الشيعي في الخليج العربي، تأثير الصحوة الدينية على الإمدادات النفطية.... الخ. وفي حين ظهرت جميع هذه الإصدارات (بصورة علنية) ومن معاهد مستقلة ؛ أتساءل عن طبيعة التقارير السرية التي تضعها وزارة الخارجية والمخابرات الأمريكية.. ولم نسمع عنها أصلًا!!