إذا كانت الحجج الاستراتيجية والأخلاقية لهذا الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل لا تكفي لتفسير سر هذه العلاقة بين الدولتين، فإن التفسير يكمن في قوة اللوبي الإسرائيلي التي ليس لها مثيل. واللوبي هو مجموعة من الأشخاص والمنظمات التي تعمل بنشاط لتشكيل السياسة الخارجية الأمريكية في اتجاه موال لإسرائيل.. إن أهم هذه المنظمات يقودها المتشددون الذين يدعمون السياسات التوسعية لإسرائيل، مثل منظمة أو لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية "إيباك". ويؤيد اليهود الأمريكيون، سواء كانوا معتدلين أو متشددين، الدعم الأمريكي الثابت لإسرائيل. وبالتالي، كثيرا ما يتشاور زعماء اليهود الأمريكيون مع مسئولين إسرائيليين، لتعظيم تأثيرهم في الولاياتالمتحدة. يقول أحد نشطاء منظمة يهودية كبرى "من المعتاد أن نقول "هذه سياساتنا بالنسبة لقضية ما، لكننا يجب أن نتأكد مما يعتقده الإسرائيليون.. إننا كجماعة نفعل ذلك دائما". ويضم اللوبي كذلك مسيحيين إنجيليين بارزين، ممن يؤمنون بأن ميلاد إسرائيل من جديد هو جزء من النبوءة التوراتية، ويؤيدون أجندة توسعها، ويعتقدون أن الضغط على إسرائيل يتعارض مع إرادة الله. كما يضم اللوبي بعض المحافظين الجدد من المسيحيين. التأثير على السلطتين التشريعية والتنفيذية ويحدد الكاتبان الطرق التي يتبعها اللوبي الإسرائيلي لتشكيل السياسة الخارجية الأمريكية: 1- التأثير على أعضاء الكونجرس: إن العامود الرئيسي لفاعلية اللوبي هو تأثيره في الكونجرس الأمريكي، حيث تتمتع إسرائيل عمليا بحصانة ضد النقد. ويعد أحد أسباب نجاح اللوبي مع الكونجرس هو أن بعض الأعضاء الرئيسيين في الكونجرس من المسيحيين الصهاينة، مثل ديك أرمي الذي قال عام 2002: "إن أولويتي رقم (1) في السياسة الخارجية هي حماية إسرائيل"، رغم أن المرء قد يعتقد أن الأولوية رقم (1) لأي عضو في الكونجرس يجب أن تكون "حماية أمريكا". وهناك أيضا أعضاء من الكونجرس ومجلس الشيوخ من اليهود، يعملون لجعل السياسة الخارجية الأمريكية تدعم مصالح إسرائيل. ويعد الموالون لإسرائيل من العاملين في الكونجرس مصدرا آخر لقوة اللوبي، فكما أقر أحد قادة إيباك: "هناك عدد كبير من الموظفين في الكونجرس من اليهود ينظرون إلى بعض القضايا من منظور يهوديتهم... يمكنك الحصول على الكثير عند مستوى الموظفين". لكن إيباك ذاتها هي التي تشكل مركز تأثير اللوبي في الكونجرس. ويرجع نجاح هذه المنظمة إلى قدرتها على مكافأة المشرعين والمرشحين للكونجرس الذين يؤيدون أجندتها، وقدرتها أيضا على معاقبة الذين يتحدون هذه الأجندة. إن المال هو عصب الانتخابات الأمريكية، وتضمن إيباك أن يحصل أصدقاؤها على دعم مالي قوي. كما تنظم إيباك حملات كتابة رسائل وتشجيع رؤساء تحرير الصحف على تأييد المرشحين الموالين لإسرائيل. لا شك في فاعلية هذا التكتيك. ويكفي سرد مثال واحد عليه، في عام 1984 عملت إيباك على إسقاط السيناتور تشارلز بيرسي من إلينوي، الذي أبدى "تبلدا بل وعداوة تجاه قضايانا". وشرح رئيس إيباك في ذلك الوقت ما حدث قائلا: "كل اليهود في جميع أنحاء البلاد تجمعوا لإسقاط بيرسي.. وفهم السياسيون الأمريكيون الرسالة، أولئك الذين يحتلون مواقع عامة حاليا وأولئك الذين يطمحون إليها". إن تأثير إيباك يتجاوز ذلك، فكثيرا ما تتم مناشدتها لكتابة مسودات الخطب والعمل والتشريعات وتقديم النصيحة فيما يخص التكتيك، والقيام بأبحاث... إلخ. النقطة الجوهرية هي أن إيباك، التي هي في الواقع عميل لحكومة أجنبية، لها قوة كابتة لحرية العمل والتعبير في الكونجرس الأمريكي. فلا عجب أن شارون قال أمام جمهور أمريكي: "عندما يسألني كيف يمكنهم مساعدة إسرائيل، أقول لهم: ساعدوا إيباك". 2- التأثير على الجهاز التنفيذي: وهي الوسيلة الثانية التي يستخدمها اللوبي، وترجع قوتها جزئيا إلى تأثير أصوات اليهود في الانتخابات الرئاسية، فرغم صغر عددهم مقارنة بعدد السكان (أقل من 3%) فإن اليهود ينظمون حملات واسعة لجمع التبرعات لمرشحي الحزبين. وقد قدرت صحيفة الواشنطن بوست ذات مرة "أن مرشحي الرئاسة الديمقراطيين يعتمدون على مؤيديهم من اليهود لتوفير 60% من أموال الحملة الانتخابية"، بالإضافة إلى أن الناخبين اليهود يتركزون في ولايات رئيسية مثل كاليفورنيا، فلوريدا، إلينوي، نيويورك، بنسلفانيا. ومن ثم لا يحاول مرشحو الرئاسة إثارة عداوة الناخبين اليهود. إن المنظمات الرئيسية في اللوبي تهتم أيضا بالإدارة الموجودة في الحكم. فعلى سبيل المثال، تعمل القوى الموالية لإسرائيل على ألا يحتل المنتقدون للدولة اليهودية أي منصب مهم في وزارة الخارجية، وهو ما جعل الرئيس كارتر مثلا يتراجع عن تعيين جورج بال وزيرا للخارجية، لأن بال من المنتقدين لإسرائيل، ومن ثم سيلقى اختياره معارضة اللوبي، لذلك يجب أن يصبح أي سياسي طموح مؤيدا صريحا لإسرائيل، وهو أمر مازال ساريا حتى الآن. ويخدم أهداف اللوبي من جهة أخرى أن يحتل أشخاص موالون لإسرائيل مواقع مهمة في الجهاز التنفيذي. فأثناء إدارة كلينتون، مثلا، كانت سياسة الشرق الأوسط تتشكل بواسطة مسئولين تربطهم علاقات وطيدة بإسرائيل أو بمنظمات موالية لها، وكان هؤلاء من المستشارين المقربين للرئيس كلينتون في قمة كامب ديفيد، في يوليو 2000. وكان الوفد الأمريكي يأخذ الإشارة من إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق وينسقون مواقفهم مقدما، فلا يقدم الوفد اقتراحات مستقلة لحل الصراع. ومن ثم فلا عجب أن يشكو المفاوضون الفلسطينيون من أنهم يتفاوضون مع فريقين إسرائيليين، "أحدهما يرفع العلم الإسرائيلي والآخر يرفع العلم الأمريكي". وتتضح هذه النقطة بشكل أكبر في إدارة بوش التي تضم في صفوفها أشخاصا متحمسين لإسرائيل. 3- تشكيل الرأي العام: لا يريد اللوبي حوارا مفتوحا حول قضايا تخص إسرائيل لأن مثل هذا الحوار قد يجعل الأمريكيين يتساءلون عن مستوى الدعم الذي يقدمونه لها فعليا. لذلك تعمل المنظمات الموالية لإسرائيل بشكل لا يعرف للكل للتأثير على وسائل الإعلام ومراكز التعليم والجامعات، لأن هذه المؤسسات لها دور حاسم في تشكيل الرأي العام. التلاعب بوسائل الإعلام تعكس وسائل الإعلام رؤية اللوبي لإسرائيل، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى أن معظم المعلقين موالين لإسرائيل. يقول أحد الصحفيين (إيريك ألترمان) بأن الحوار والجدل بين المتخصصين في قضايا الشرق الأوسط "يتحكم فيه أناس لا يمكنهم تصور توجيه النقد لإسرائيل"، وذكر 61 كاتب عمود ومعلقا يمكن الاعتماد عليهم لدعم المواقف الإسرائيلية بدون قيد أو شرط، مقابل خمسة كتاب ينتقدون سلوك إسرائيل ويتبنون مواقف موالية للعرب. وينعكس التحيز لإسرائيل في افتتاحيات كبرى الصحف الأمريكية، مثل وول ستريت جورنال، واشنطن تايمز، نيويورك تايمز. ويعترف ماكس فرانكل رئيس التحرير التنفيذي لنيويورك تايمز في مذكراته: "لقد كنت مخلصا لإسرائيل أكثر مما كنت أجرؤ على أن أبين.. كنت أكتب تعليقاتي من منظور موال لإسرائيل". أما بالنسبة لنقل وسائل الإعلام للأحداث، حيث يحاول المراسلون أن يكونوا موضوعيين، فإن اللوبي يقوم بإثناء وإعاقة أي تقارير مسيئة لإسرائيل، حيث ينظم حملات لكتابة الخطابات ومظاهرات وحملات مقاطعة لوكالات الأنباء التي تنشر ما يمكن اعتباره مناهضا لإسرائيل. فقد تم تنظيم مظاهرات خارج مقر محطات الإذاعة العامة الوطنية في 33 مدينة في مايو 2003، كما حاول اللوبي إقناع المساهمين بسحب الدعم عن هذه المحطات حتى تصبح تغطيتها لأحداث الشرق الأوسط أكثر تعاطفا مع إسرائيل. ويقال إن محطة بوسطن خسرت حوالي مليون دولار نتيجة لهذه الجهود. كما طالب أصدقاء إسرائيل في الكونجرس هذه المحطات بتدقيق رسمي لحساباتها وبمراقبة تغطيتها لأحداث الشرق الأوسط. وتفسر هذه العوامل لماذا تتضمن وسائل الإعلام الأمريكية قدرا ضئيلا من النقد لسياسة إسرائيل، ونادرا ما تناقش علاقة واشنطن بإسرائيل أو التأثير العميق للوبي على السياسة الأمريكية. مراكز التفكير تلعب مراكز التفكير Think Tanks دورا هاما في تشكيل المناقشات والمناظرات العامة، وفي السياسة الحقيقة. وتسيطر القوى الموالية لإسرائيل على مراكز التفكير في الولاياتالمتحدة. وأنشأ اللوبي مركزا خاصا به عام 1985 هو معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى WINEP. ويدعي هذا المركز أنه يقدم رؤية "متوازنة وواقعية" لقضايا الشرق الأوسط، غير أن ذلك ليس صحيحا، فالمركز يتم تمويله وإدارته من قبل أشخاص ملتزمين تماما بتقديم وخدمة الأجندة الإسرائيلية. خلال الخمس والعشرين عاما الماضية أحكمت القوى الموالية لإسرائيل قبضتها على أهم مراكز التفكير في الولاياتالمتحدة، ولعل أحد مؤشرات تأثير اللوبي في هذا المجال هو ما حدث في مؤسسة بروكينجز Brookings؛ فلسنوات عديدة كان الخبير في قضايا الشرق الأوسط لهذه المؤسسة هو وليم كوانت، الأكاديمي البارز والمسئول السابق في مجلس الأمن القومي، والذي اشتهر بعدم تحيزه في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي، أما حاليا فتتم إدارة دراسات الشرق الأوسط في المؤسسة من خلال مركز سابان الذي يموله حاييم سابان، وهو ثري أمريكي-إسرائيلي، وصهيوني متحمس، أما مدير مركز سابان فهو مارتن إنديك ذو السلطة المطلقة والنفوذ.