في العصر الحاضر أصبحت خزانات التفكير تقوم بدور بارز في اقتراح وصياغة القرارات التي تتعلق بالسياسات الخارجية والاقتصادية والاجتماعية وتقديمها إلى مؤسسة الحكم وقنواتها التنفيذية والتشريعية، ليس هذا فحسب بل إن تلك المراكز أصبحت تتولى القيام بدور استكشاف الأفكار وتدويرها وتمحيصها ثم بلورتها بحيث تتحول إلى مفردات وصياغات ذات دلالات تفرض على صناع القرار الاقتناع بها ومن ثم تبنيها والأخذ بها. ولا شك أن مسؤولية خزانات التفكير متفرعة وعديدة فهي تقوم بالإضافة إلى تحديد إطار حركة السياسة الخارجية والاقتصادية والاجتماعية الاستباقية بتفريخ الكوادر اللازمة للعمل في الميادين السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الأمور الاستراتيجية. وهي تقوم أيضاً بإعداد جماعات البحوث وكتاب التقارير وجميع البيانات وتحليلها الذين تزداد الحاجة إليهم على جميع المستويات. إن خزانات التفكير وسيلة ممتازة للاستفادة من الفكر في صنع القرارات المصيرية وأهمية أن يكون ذلك الفكر في خدمة المصالح الوطنية العليا. إن تنامي احتضان الحكومات المتعاقبة في الدول المتقدمة لدور الفكر وزيادة الاعتماد عليه في تشكيل السياسات والبرامج التي تتبناها تلك الحكومات يشير بكل وضوح إلى أهمية الاستعانة والاستفادة من خزانات التفكير لإنها منبع للفكر الناضج والبعيد عن الارتجالية والآراء الفردية التي تشوبها في كثير من الأحيان عدم العمق وسطحية التفكير ناهيك عن الانعكاسات السلبية التي تشمل المحسوبية والأهواء والمصالح الشخصية. نعم إن خزانات التفكير أصبحت وسيلة مساندة وفاعلة لأصحاب القرار على مستوى المؤسسات والدول. ويفرض الحرص على توازن الرواد أن يشكل المفكرون العاملون في تلك المراكز طيفاً واسعاً من أصحاب الرأي وأن تسيطر عليها ثلة نخبوية أحادية التوجه فينحرف المسار عن الهدف الذي أنشئت من أجله وهو الاستقامة والوعي والإدراك للمصالح العليا للوطن والمواطن وتشكيل قاسم مشترك لتلك المصالح. ولعل من أبرز الأمثلة على إمكانية الانحراف في مراكز التفكير ما حدث في أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001) حيث تمكنت ثلة من المثقفين والمفكرين المؤدلجين الصاعدين على سلم الحرب على الإرهاب من الوصول إلى مراكز اتخاذ القرار وتشكيل خزان تفكير منحرف أطلق عليه اسم المحافظين الجدد. وهؤلاء هم الذين انطلقوا باسم مصالح أمريكا السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية إلى مرتكزات صياغة قواعد هيمنتها واستغلال توحدها بالقرار العالمي بعد انهيار المعسكر الشيوعي. ولا شك أن تلك التوجهات والمغامرات التي نظر لها خزان تفكير المحافظين الجدد قد أودى بأمريكا إلى الدخول في صراعات غير محسوبة أودت بسمعتها ومكانتها العالمية إلى الحضيض وأضر كثيراً بمصداقية توجهاتها الديمقراطية ناهيك عن تفجير الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي كان منبعها الظاهري سوء تصرف إدارة المحافظين الجدد. ولا شك أنه خلال تبلور ذلك الفشل الذريع في السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية في عهد الرئيس بوش وخزان التفكير المنحرف الذي اعتمد عليه كانت هناك خزانات تفكير أخرى تبحث البدائل المختلفة للخروج من ذلك النفق المظلم فكانت هناك عدة خيارات لتلميع الوجه الأمريكي منها الإعلامي ومنها الوصول إلى قناعة تغيير جذري في الإدارة وفي التوجهات أي أن التغيير أصبح حتمياً. ومن خلال ذلك الشعار ومن خلال إدارته بصورة جيدة ومن خلال حبكة الديمقراطية تشكلت القناعات والسياسات الأمريكيةالجديدة. وعلى كل حال إذا صدقت النوايا. وطابقت التوجهات الظاهرية تلك الحقيقة المضمرة فسوف تكون هناك أمريكا جديدة. وعلى العموم سوف تظل لمراكز الدراسات الاستراتيجية وخزانات التفكير في أمريكا اليد الطولى في تشكيل السياسات الأمريكية الحالية والقادمة حسب الظروف والمستجدات التي تحدد من خلالها البدائل التي تخدم المصالح العليا لأمريكا. وخير دليل على مرونة التحول في التفكير أن ثلاثة مراكز من أكبر خزانات التفكير في أمريكا على سبيل المثال لا الحصر وهي «وقف كارينجي للسلام العالمي» و«معهد بروكنغز» و«مؤسسة راند» قد غيرت من اهتماماتها أو توسعت فيها وذلك استجابة للظروف والمعطيات الداخلية والدولية. إن خزانات التفكير في العادة تضم مجموعتين من الأقسام المتخصصة أحدهما تبحث في الشؤون الداخلية مثل التعليم والصحة والأمن والأمور الاجتماعية وغيرها، والأخرى تبحث في الشؤون الخارجية وهذه تشمل الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتاريخية والدينية وكذلك في الأمور النفسية والعرقية والطائفية وكذلك مناطق الوفرة، ليس هنا فحسب بل إن المواقع الجغرافية والاستراتيجية لها نصيب كبير من الدراسات التي تركز على الدول والشعوب المستهدفة بالدراسات والاستقصاء. إن الاستعانة بخزانات التفكير لم يعد حصراً على الولاياتالمتحدة بل أنه أصبح أسلوباً علمياً وعملياً أخذت به جميع الدول المتقدمة بأشكال وأساليب قد تختلف في المظهر ولكنها تتفق في الجوهر والضمون. واليوم امتد هذا الأسلوب الاستراتيجي ليشمل استخدامه الدول الناهضة التي تنشد التقدم عبر منهج علمي مميز وذلك إدراكاً منها أن ذلك يساعدها في اتخاذ القرار المناسب الذي يضمن عملية التحول إلى مجتمع معرفي يماثل ذلك الموجود في الدول المتقدمة. وفي كلا الحالين أًصبحت خزانات التفكير لاعباً رئيساً في اتخاذ القرار المناسب لأنها أصبحت مصدراً خصباً لإنتاج وتحليل وتوثيق المعلومة وتوزيعها واستثمارها على جميع الصعد والفعاليات، نعم إن المعرفة قوة لذلك أصبح الاستثمار في المعلومة والفكر هو المعول عليه في الفكر السياسي الحديث وهو الذي أصبح يعتمد على امتلاك المعلومة الموثقة باعتبار أن القوة لم تعد عسكرية فقط بل أصبحت معلوماتية أيضاً وهذا أيضاً يتوافق مع التوجهات الاقتصادية الجديدة التي أصبحت ميدان تنافس بين الدول للاستثمار في الاقتصاد المعرفي المتجدد وغير القابل للنضوب والذي تزداد فروعه وموارده من خلال البحث والتطوير، ولعل من أهم الأسباب التي تشير إلى أهمية إنشاء مخازن التفكير والاستعانة بها ما يلي: إن الرأي الفردي محدود الفعالية مهما اجتهد صاحبه لأن المعلومة ومصادرها اليوم أكبر من قدرة الفرد على الإلمام بها ناهيك عن أن عمق الطرح وقوة المعلومة التي يتوصل إليها مجموعة من المفكرين يجعلها أجدى وأنفع. إن خزانات التفكير تستطيع التأثير في مجالين حيويين هما الرأي العام والقرار السياسي، فتأثيرها على الرأي العام يأتي من خلال توجيهها لوسائل الإعلام واستراتيجيات التعليم ومناهجه وهما أداتان رئيسيتان من أدوات نشر الوعي والفكر البحثي والمعرفي. أما التأثير على القرار السياسي والاستراتيجي فيأتي عبر تقديم خيارات مدروسة للخروة بقرارات تخدم مصلحة الوطن والمواطن الآنية والمستقبلية. إن عمل خزانات التفكير يتسم بأنه بعيد عن الانفعالية والغوغائية في التفكير والتخبط في التنفيذ والمبالغة في تضخيم النتائج المتوقعة، فتلك المراكز تنشد الواقعية وهذا ما جعلها موضع ثقة مؤسسات صنع القرار. أما دول العالم الثالث والعالم العربي جزء منه فلا زالت لا تعي أهمية الاستثمار في صناعة التفكير ومؤسساته وكوادره وذلك مثل مراكز الدراسات الاستراتيجية وخزانات التفكير ولا زال الاهتمام بتلك الأمور متواضعاً جداً أو معدوماً على الرغم من وجود أعداد كبيرة من المؤهلين والمتخصصين إلا أنهم مبعثرون وتقف أمام الاستفادة منهم عوائق تنظيمية وسياسية وتمويلية وقانونية ناهيك عن عدم الوعي بأن تلك المراكز تعطي إنتاج فكر جماعي متخصص وبالتالي مشورة ناضجة، وذلك بدلاً من الاعتماد على الآراء الفردية أو اللجان غير المتجانسة فكرا وتخصصاً ومسؤولية، وفي كلا الحالين قد تسود الأهواء والمصالح الشخصية والمحسوبية تلك الأراء وهذا يتنافى مع الكفاءة والمصلحة العامة.