لقد رأينا في المقال السابق كيف أن (مسألة الآخر) تُشكل جزءاً أصيلًا من أية مقاربة علمية تحاول تشريح الظاهرة الطائفية ؛ بغية الوصول إلى قاعدة معقولة من التسامح الضروري للتعايش بين أبناء المجتمع الواحد من جهة، وبين بقية التكتلات المجتمعية من جهة أخرى . ورأينا كيف يستفز التركيزُ على مقاربة هذه المسألة المحورية (= مسألة الآخر)، أولئك المنتفعين بإذكاء نيران الصراع الديني والمذهبي والطائفي، أولئك الذين لايمتلكون من مؤهلات الاستنفاع إلا الجهل والرعونة والغباء. إننا لم نكن - ولن نكون - استثناء، لا في الزمان ولا في المكان . لسنا وَحْدنا الذين مررنا - ونَمُرّ - بمثل هذا الاستشكال الفكري المجتمعي . كل المجتمعات الكبرى مرت به، واستشكلته في لحظات التحول التي تعكس لحظات وعي بالذات. حتى أرقى الحضارات، وأكثرها ثراء بالإنساني (= الحضارة الغربية) مَرّت بما هو أسوأ، وكانت مسألة الآخر، وخاصة الآخر من داخل الإطار المسيحي، مسألة مقلقة لها، لا على مدى عقود فحسب، وإنما - أيضا - على مدى قرون من الحروب الأهلية / الطائفية التي أبادت في بعض الفترات ما يُقدّر بثلث السكان. ورغم تنوع وتعدد وتتابع المحاولات التي امتهنت مُقاربة الإشكاليات المرتبطة بهذه المسألة المزمنة في أوروبا، فقد كانت - جميعها - تبدأ من ميدان الدين، وتنتهي بميدان الدين أيضا؛ دون أن يعني هذا الوقوع في الانحصار بين نقطتيْ البداية والنهاية اللتين تتخللهما كثيرٌ من الدوافع والمؤثرات اللادينية، والمرتبطة مباشرة بالوقائع المتعينة لحياة الناس. منذ ثلاثة أو أربعة قرون، منذ أن بدأت إشكالية التسامح تطرح نفسها بإلحاح على الواقع الأوروبي، ومن ثم على الفكر الأوروبي؛ نتيجة الصراعات الدينية والمذهبية الطاحنة، والمفكرون هناك يُدرِكون أن البنية الدينية العامة لأي تجمع ديني أو طائفي أو مذهبي، هي التي تصنع (الحالة التعصّبية / العدائية) تجاه الآخر؛ شرط أن تكون تلك البنية متشبعة بمقولات الكراهية والعداء التي تُرافق طبيعة البناء الكهنوتي. وقد كانت كذلك في معظم الأحوال، إن لم يكن في كل الأحوال. وهي كذلك - أيضا - في أي مجتمع يتمحور وعيه حول التصورات الدينية ومن ثم يرتضي الدين صانعَ وعي، أي كأهم أداة ثقافية تمتهن تشكيل الوعي العام. إن أولئك المفكرين الذين أخذوا على أنفسهم مهمة إرساء قيم التسامح الاجتماعي، أدركوا - منذ البداية - أنه لا يجدي أن تتناول مسألة الآخر كمسألة معزولة عن جذورها في الرؤية الدينية العامة التي تغذيها، لا يجدي أن تتناولها بمعزل عن مكونات البيئة الثقافية التي تحتضنها، بل ولا أن تُقاربها في إطار المبدأ التسامحي العام فحسب؛ لأن (طبيعة التدين)، الطبيعة التي صنعها الكهنوت الديني على حدود مصالحه الخاصة، هي - بالذات، وليس ثمة شيء غيرها - البنية الذهنية العامة التي لايمكن عزل (مسألة الآخر) عنها بأي حال من الأحوال. بإرساء قيم التسامح التام مع الآخر، أياً كان هذا الآخر، بتبديد سحب الكراهية، وبتمديد جسور الإخاء، يسقط المعمار الكهنوتي الطائفي من أساسه؛ لأن أساسَ بنائه هو اصطفافٌ تعصبيّ متطرف، هو اصطفاف يمنح سدنة التعصب ومروجي أفيون الكراهية فرصة الاستنفاع المادي والمعنوي، خاصة في مجتمعات الجهالة الجهلاء، تلك المجتمعات المُتردّية بين بؤس الوعي وشقاء الواقع. يستميت سدنة الكهنوت (والكهنوت موجود في كل دين، ولكن بتمظهرات شتى، وعلى مستويات متباينة) في الدفاع عن مصالحهم الخاصة، عن مكانتهم المعنوية، وعن مكاسبهم المادية، - مع توسلهم بكثير من وسائل التواري وأقنعة التخفي - ؛ من أجل أن يبدو دفاعهم عن مصالحهم ومطامعهم في صورة الدفاع عن الدين وعن مبادئ الدين، ضد أعداء الدين (أعداؤه كما يُصورهم السدنة المستنفعون، وإلا فسدنة هذا الدين هم أعداء الدين حقيقة، وهم أعداء أتباعهم المخدوعين بهم واقعاً؛ لأنهم المتاجرون بالدين على حساب مشاعر البسطاء، وعلى حساب جيوب البسطاء أيضا)، ضد أعدائه المزعومين من فلاسفة ومفكرين ومُبدعين وتحرّريين مناضلين؛ حيث يتم وصفهم بصفات مُنفّرة في العُرف الاجتماعي - الثقافي، كالوصف بالانحلال أو بالتغريب أو بالبدعة أو بالزيغ أو بالضلال، بل وأحيانا بالزندقة والكفر الصراح، لمجرد الاختلاف على قراءة النص المقدس، أو قراءة التاريخ شبه المقدس، أو حتى قراءة الواقع المدني المُدنّس في بعض الأحيان !. يُشير المفكر السوري القدير، وعالم الاجتماع الشهير: برهان غليون، إلى أن (الطائفية) - كحالة - تنتمي إلى السياسة، لا إلى الدين ولا العقيدة . ويقصد بذلك أن وجود الأديان والطوائف والمذاهب، المختلفة فيما بينها عقدياً، أمر طبيعي، ولا يؤدي - من حيث مبدأ الاختلاف العقدي المجرد من كل أنواع الإضافات والتأويلات - إلى ظهور الحالة الطائفية في تمظهرها السلبي : الانقسامي / الصراعي. العقيدة - أية عقيدة - إذا ما كانت مُجَرّدة من علائقها السياسية، أي من التوظيف السياسي، لا تصنع الحالة الطائفية ابتداء، وإنما يصنعها أولئك الذين يُوظّفون هذا الاختلاف لأهداف الصراع على الواقع. والصراع على الواقع سياسة خالصة؛ مهما كانت الدواعي، وأياً كانت المبررات التي يتم ترويجها في فترات الصراع من أجل الاستحواذ على مقومات هذا الصراع، على العناصر الفاعلة المؤثرة في نتائج هذا الصراع. يرى برهان غليون بحق، أن الطائفية تُشكّل سُوقا سياسية سوداء موازية للحراك السياسي العام (= الذي يعلن بصراحة عن كونه نشاطا سياسيا في الأساس)، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم ومبادئ، أو مذاهب دينية لجماعة خاصة فالطائفية - بحسب غليون - تشكل استراتيجية سياسية، للاستفادة من التضامن الآلي الذي ينشأ عن علاقات القرابة المادية والمعنوية فهي (= الطائفية) ترتبط بمشاعر التضامن بين البشر المنتمين إلى عقيدة واحدة، أو أية رابطة قرابة، حيث يجري استخدام هذا التضامن الطبيعي لأهداف سياسية معلنة أو غير معلنة، وليس من الضروري أن يكون كل أفراد التضامن على علم بها، بل هم شركاء فيها بمجرد انخراطهم الطبيعي في الجماعة التي تشكل بالنسبة لهم هوية الانتماء. إذن، ليست المشكلة في ذات التّديّن (بشرط أن يكون تدينا خالصا معزولا عن التوظيف السياسي)، المتضمن للتنوع ضرورة ؛ إذ التنوع نزوع طبيعي، ومن ثم وجود طبيعي. المشكلة تكمن في قيام بعض رجال الدين بالدخول إلى ميدان السياسة من بوابة الدين. فهم (= رجال الدين) مُتديّنون ادّعاء، وسياسيون حقيقة، بكل ما تقتضيه سلوكيات (السَيْسَنَة) من انفصال عن المبادئ والأخلاق. هذا التداخل الإشكالي له تاريخه، بمعنى أنه لم يكن حدثا طارئا في تاريخ الإسلام، بل كان هو النشاط السائد، النشاط المهيمن على المستوى الاجتماعي والسياسي والديني؛ دونما اعتراض حقيقي على هذا الاشتباك؛ ودونما تبصّر بما سيؤدي إليه هذا الاشتباك من تأزمات لا تأخذ بخناق الواقع / السياسة، فحسب، وإنما تأخذ بخناق الخطاب الديني أيضا. يقول الدكتور خليل أحمد خليل، في كتابه المُميّز (سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني) ص 83، - عن هذا الواقع الإشكالي المرتبط بتاريخنا - : " فبدلا من علمنة السياسة، أي ممارستها بعلم، وفصلها عن المثيولوجيات المؤسسة للسيطرة على الجمهور، جرت أسطرة السياسة العربية نفسها، بديانات غارقة في أسطوريتها القروسطية؛ وبدلا من تفكيك المذاهب الدينية جرى إنتاج إيكاريات من جماهير متمذهبة ومغلقة ". وهذه الصورة التي تحكي الواقع بأمانة هي - بلا شك - عكس ما يفرضه قانون التطور من ضرورة ارتباط النشاط الواقعي / الطبيعي / المدني بما لا يتجاوز - من الناحية العلمية - حدود هذا العالم الواقعي . لكن، يبدو أن العالم الإسلامي كان - طوال تاريخه المتعثر بقيم النكوص - يتقدم إلى الوراء !. وحتى لا يُفهم أن في الأمر مُبالغة ؛ نقول : ليس المراد بالسياسة هنا ما يتحدد حصرا بالنشاط السياسي الصريح في مُسْتَويي : الخطاب والتمثيل، بل المراد كل ما يتجاوز الوظيفة الأساسية لرجل الدين، الوظيفة المُتحدّدة في التوجيه الروحاني للفرد والجماعة بما لا يدع مجالا للتدخل في الشأن العام، من مبدأ : (لست عليهم بمسيطر) . وبهذا يتضح أن ممارسات الدعاة والوعاظ وزعماء الطوائف التي تتماس مع الشأن العام للجماعة التي يدّعون تمثيلها، هي أنشطة سياسية بحتة؛ مهما تلبست بخطاب ديني يدّعي أنه لا يخضع إلا لإرادة الله، وأنه بريء من النزول على إرادة الواقع الذي تدور عليه حقيقة الصراع. يقول خليل أحمد خليل في كتابه السابق ص 60 - موضحا حقيقة تَسيُّسِ رجالِ الدين عن وعي ؛ رغم تواريهم خلف شعارات الخطاب المقدس - : " ما حدث أيضا عبر التاريخ السياسي للجمهور العربي هو استتباع السياسي للديني؛ ولذا بات مطلبُ معظم رجال الدين استعادة وظيفتهم السياسية، بحجة أن الدين سياسة؛ ولكن في إهاب (قدسي) ديني " . هكذا - إذن - تبدو الصورة واضحة لمن يَتعقّلها. ما جرى - ويجري - هو توظيف متبادل، مُنافعةً واستنفاعاً، بل وصراع في الوقت نفسه . إنها مُقايضة سياسية على أرضية مشتركة تفرض شروطها وتغيرها باستمرار . لكن، رغم ما تبدو عيه الصورة من وجود تشارك متفق عليه ضمنيا، إلا أن ثمة سلوكا تنافسيا واضحا وحاضرا على امتداد اللحظة التفاعلية، فكل من رجل الدين ورجل السياسة يسعى جهده لاستثمار توجهات إرادة الجماهير؛ لأن هؤلاء الجماهير هم رأس المال المستثمر في الصراع. والآثار السلبية لهذا لأمر لا تقف عند حدود النتائج المباشرة التي ل بد أن يفرزها مثل هذا التداخل الوظيفي. فمن المؤكد أن هذا السعي المحموم للهيمنة على الجمهور، فرض على رجال الدين إجراء تحويرات وتغييرات في صلب الخطاب الديني؛ من أجل أن تكون مفردات الخطاب أقدر على القيام بمهمة الاستغفال والاستتباع، ومن ثم الاستغلال . ولا يغيب عنا في هذا السياق أن نشير إلى أن تحويل هذه المفردات من مستواها الديني الخالص، إلى أدوات صراعية / سياسية، يعني بالضرورة توظيفها في الاختلاف؛ لا في الاتفاق، في التشرذم الطائفي؛ لا في الاستظلال بسقف الدين العام. بمعنى هذا أن الطائفية كحالة اجتماعية / واقعية، كانت مقصودة، كانت ضرورة لتسييس الدين، كانت عملا سياسيا منذ البداية، كانت هدفا تَحدّد عن وعي منذ بداية الافتراق.