تتضافر الجهود في مجتمعنا بإدارة الأفراح بشكل لافت، رغم أنها لا تحتاج في تقديري إلى إدارة، فهي غالبا ما تدير نفسها، ففي حفلات الزواج والمناسبات الكبيرة، لم يعد غريبا أن تجد صاحب المناسبة وهو في كامل أناقته وتبرجه .. لا مهمة له سوى الابتسام واستقبال المهنئين، فيما يتولى أقاربه حتى الدرجة العاشرة، وجيرانه وأصدقاؤه، ومعارفه مهمة الضيافة بكامل تفاصيلها. مرة قال لي أحدهم بعد أن عثرت عليه جالسا في صفوف الضيوف لأهنئه بزواج كريمته : لم يدع لي هؤلاء الشباب ما يمكن أن أفعله سوى أن أفعل ما فعلت !، وعلى النقيض تماما .. فإنك حين تذهب للمقبرة في تشييع متوفى، حيث تحاصر مشاعر الأسى والحزن ذويه، وقد يكون منهم من أمضى أياما لم يذق فيها للنوم طعما إن كانت الوفاة بعد مرض عضال، فإن أكثر ما يسترعي انتباهك أن معظم المشيعين يمارسون من ألوان التضييق عليهم ما يضاعف أحزانهم .. فيزاحمونهم على قبر فقيدهم، ويحولون بينهم وبين إتمام مراسم الدفن بيسر، ويحاصرون القبر وكأنهم يخشون أن يفر المتوفى منه، حتى وإن كانت امرأة ما يضطر الكثيرين منهم لرفع غطاء على وجه القبر يمسكونه من زواياه الأربع لصيانة كرامة جثمان المتوفاة إلى أن يُوارى الثرى، وما أن يتم الدفن حتى ينهالوا عليهم بالقبل . هذا يجرّهم هنا وذاك إلى هناك، كل يريد أن يضع قبلاته على خدودهم ويمضي إلى حال سبيله، وكأن العزاء لا يبلغ غايته إلا بعد إهالة التراب وبهذه الطريقة التي هي أقرب لتوقيع إثبات الحضور منها إلى التعزية والمواساة، وحين يتمكنون وغالبا بمشقة كبيرة من الاصطفاف لأخذ العزاء، إما تحت لهيب الشمس وسياطها الحارقة، أو زمهرير البرد، يتزاحم المشيعون حولهم بعشرين طابورا .. لا أحد يعرف لها بداية ولا نهاية، حتى إنك تشفق على رقابهم فهذا يتلّهم إلى هنا وذاك إلى هناك حسب موقع المعزّي، ليمطرهم بوابل من القبلات بعدد ما يتقنه من عبارات العزاء المكررة، ولا أعرف أين إدارة المقبرة عن هذه الفوضى المؤذية والتي لا يقتصر أذاها على ذوي المتوفى، وإنما يمتد إلى أولئك الشيوخ الذين يذهبون للمقابر للتشييع طلبا للأجر، يحملون معهم عصيّهم وضغطهم وسكّرهم وعللهم، فيجدون من العناء والمشقة ما لا يحتمله الأشدّاء، ثم لماذا تبقى المقابر بيد الشؤون البلدية أصلًا، ألا يُفترض أنها من اختصاصات الشؤون الإسلامية التي يجب عليها أن تنظمها وتديرها بما يحقق اليسر للمعزين وللمصابين؟ ولتحث الناس على الاكتفاء بالمصافحة أو على الأقل الاقتصاد في التقبيل مراعاة لتلك الظروف، إلى جانب النظر في ترقيم المقابر على غرار ما هو معمول به في بعض المناطق للتسهيل على الناس فيما يتصل بمعرفة قبور موتاهم بدلا من الكتابة على الجدران أو العلامات المؤهلة للفقدان . غير أن المعاناة من غياب إدارة الأحزان لا تنتهي عند هذا الحد . فهنالك الكثير كأوقات العزاء المفتوحة وسواها .. لذلك فإن نقل إدارة المقابر إلى الشؤون الإسلامية، قد يُسهم ومن خلال التوعية عبر منابر الجمعة بإيجاد إدارة فاعلة للأحزان، والتي يظل الناس بأمسّ الحاجة إلى من يُديرها .