* (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين*الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) رددها بهمس ..أراد أن يوطّن نفسه ليخفف وطأة الحزن.. جلس القرفصاء ..ثم واصل هاجسه : لقد قال أحد خبراء الحياة :”الحياة هي لذة وألم .. سعادة وشقاء..جدلية ومبدأ الازدواجية هو جوهر وجودها ..تعايش الأضداد .. لايمكنك أن تبقى سعيدا إلى الأبد ، وإلا فقدت السعادة معناها ، ولا يمكنك أن تبقى في حالة انسجام إلى الأبد وإلا زالت حالة الوعي بالانسجام .. كل لذة تحمل في طياته بعض الألم وكل ألم يحمل في طياته بعض اللذة “ ( اليوم الأول ) * هنا مجموعة من الأقرباء في المنزل : نشيج ..تأوهات..تهليل..استرجاع . * وهناك حركة استثنائية لمجموعة من الشباب – كالنحل همّة ونشاطا – برفقة الميت لتخليص كل مايخصه من إجراءات نظامية ، تم نقله إلى المغسلة لتجهيزه.. نظرات الوداع الأخيرة .. ومن ثم الصلاة عليه .. هناك أيضا : دعا له جموع المصلين .. بكاء .. تنهدات.. حوقلة..شريط من الذكريات يمر سريعا ..الله أكبر.. هكذا الدنيا .. يالضعف الإنسان وقلة حيلته أمام هذا المصاب الجلل . * في المقبرة دائرة كبيرة من الفسيفساء البشرية مكوناتها ومنظومتها الجيران والأصحاب فضلا عن أهل الميت وأقربائه .. صُور مشرقة للوفاء وللتواصل ..حاضرون بقلوبهم الصافية النقية.. أصوات مختلطة تلتقطها الأذن..نغمات أخروية لمجموعة من الحاضرين : ترحم .. أدعية .. استفهامات : هل هو مريض ؟ : .. نعم . : هل لديه أولاد ؟ : نعم . : الحمد لله على قضائه وقدره..الحمد لله. : الا تلاحظ كثرة تقبيل المعزين!!؟ : نعم .. اجهاد لأصحاب العزاء !! : والمصافحة باليد تغني!! : نعم . * هناك موقف صائب لأحدهم : جزاكم الله خيرا فليُكتفى بالمصافحة دون التقبيل. * أتاه الرد سريعا من أحد المتحمسين وسط الجموع : .. صافحهم أنت .. أما نحن فسنقبّلهم . * وهناك نغمات دنيوية تلتقطها الأذن لثلة من المعزين : هل بيعت أرض فلان ؟ : .. نعم . : ماقيمتها ؟ : ثلاثمئة ألف . : هل تستحق ؟ : نعم . * ثلة أخرى تدير رؤوسها تختلس النظرات يمنة ويسرة تعلو محياها ابتسامات تداريها على استحياء لتستر نفسها عن أنظارالآخرين .. فالموقف لايحتمل . : مبروك الفوز. : الله يبارك فيك . : الحكم ظلمنا !! : نعم .. صحيح . * في المنزل أصوات مختلطة وعبارات غير مكتملة تلتقطها الأذن : السلام علي .. : أحسن الله .. : مأجوري .. أصبر.. وا.. : لله ماأخذ .. * رنين الهواتف الجوالة لاينقطع .. مختلطة أصواتها بأصوات الوافدين عبارات هنا .. وهناك : نعم .. نعم .. معك .. جزاك الله خيرا . : الحمد لله على قضائه وقدره .. خذ محمد معك . : سليمان غير موجود .. سأبلغه حينما يعود . * مال أحدهم إلى مجاوره ثم قال : من هو الأولى بالإهتمام هل هو الحاضر لأداء واجب العزاء !!؟ أم هذا الذي على الهاتف !!؟ : كلاهما له حق . : أعرف بأن لهما الحق .. ولكن حينما يتصادف وجود إنسان على الهاتف وآخر أمامك بنفس اللحظة عليك بالإستئذان من صاحب الهاتف لحظة لجبر خاطر من حظر!! : نعم .. هذا مايجب فعله . : كما أن هناك انتقائية باختيار من يتقبل العزاء مع من يتصل بالهواتف الجواله !! : لم أفهمك !! : أعني ألسنا كلنا أقرباء للميت !!؟ : نعم .. ولكن ربما المتصل طلب أسماء بعينها !! : في هذه الحالة معذور .. ولكن بعض هؤلاء المتصلين من يطلب إعطائه كل من له علاقة بالميت !! يريد الإحتساب .. : ومن أخبرك بذلك !!؟ : أحيانا بعض أولئك المتصلون .. يتصل مرة أخرى ويقول : كنت أتوقع بأنك لست موجودا هنا – يقصد في مجلس العزاء - فأسأله : ولماذا !!؟ فيقول : لأنهم لم يصلوني بك لأكلمك مع طلبي إعطائي كل من له علاقة !! : ربما كان ذلك سهوا .. : ربما .. ربما !! ( اليوم الثاني ) * كلما خف الوافدون للعزاء .. يتم التقاط الأنفاس .. إما بشربة ماء .. أو إرتشاف فنجان قهوة .. أو شاي .. أو ابتسامة على استحياء لموقف فيه طرافة .. كأن يرتبك وينطق أحد المُعزين بعبارة : كل عام وأنتم بخير .. ثم يستدرك ويعود .. ويكمل : أحسن الله عزاءكم .. ثم يخرج على عجل واستحياء مدركا أن الألسن ستلوكه !! * منذ لحظات حضر أحد الدعاة وذكّرالحاضرين ..ودعا للميت.. أحدهم يميل إلى الجليس المجاور.. ثم يستفسر : هل التعريف بالقادمين ضروري!!؟أعني لو كان بإنتقائية لأناس دون آخرين! : لم أفهمك !! : أعني بأن تعرّف بشخص .. وتدع من دخل معه بنفس اللحظة .. وقد يكونا قدما معا بسيارة واحدة !! :سؤالك محيّر !! * ثم هو ذاته يسأل صاحبه : من هذا الذي خرج الآن ؟ * علامات التعجب تكسو محيا صاحبه فيسأله : هل التعريف ضروري !!؟ : لماذا تكرر سؤالي الآنف !!؟ : متعجبا منك !! : هذه غير تلك . : على العموم اسأل غيري فأنا لا أعرفه . * قد ينبزه هذا الآخر بلقبه !! ثم يواصل حواره الرتيب والمُملّ لصاحبه : لماذا فلان يتقبل العزاء !؟ ماعلاقته !؟ : سبحان الله ، ألا يستحق بأن يُعزّى الجار بجاره ناهيك عن القريب !!؟ أمرك غريب هذا الصباح !! ألا تعرف الأصول !!؟ * حوار هاديء هناك صادرا من أحد طرفي المجلس : كيف عرفت بوفاته – رحمه الله – ؟ : لقد بُلّغت برسالة جوال من قِبل محمد فجزاه الله خيرا . : إنها عادة طيبة .. ففي السابق لقلة وسائل الإتصال تمضي الأيام دون أن نعلم بالوفاة .. وقد يلومك صاحب العزاء . * وآخر يبدي ملاحظة لصاحبه بصوت خافت : الملفت للإنتباه مع هذه الصور الجميلة من التلاحم ، إلا أن بعض الأقرباء للمُتوفى تجده يتوارى خلف صفوف العزاء في المقبرة أو حتى يندر حظوره لمنزل العزاء هنا !! : إما أن يتوارى خلف الصفوف فلا شك بأن ذلك خطأ .. أما ندرة حظوره للمنزل فلا لوم عليه لأنه ربما يرى بأن ذلك ليس ضرورة ويكتفي بالمقبرة .. أو قد يكون مريضا أو صاحب عاهة .. : نعم .. نعم .. معذور. ( اليوم الثالث ) * حوار يدورفي المجلس الآخر : ألا تلاحظون أن تجمهر المعزون حول القبر أثناء الدفن يعيق حركة المقربين للميت لاتمام مهمتهم !! * أجاب آخر : المعزون مجتهدون .. يرى الكثير منهم أن التصاقهم بالقبر من أوجب الواجبات .. إنها الحميمية بين الناس ياصاحبي .. فيُشكر الناس على تلاحمهم ووقوفهم مع أهل العزاء . : بهذه الصورة !! * لم يأتيه الرد ثم واصل : ألا ترون بأن هنالك مبالغات في تقديم الطعام للموجودين !!؟ * رد صاحبه : سبحان الله .. إذا رفض صاحب العزاء قبول مثل هذه الولائم لايسلم من ألسنتكم !! وإذا قبلها تلومون من يقدّموا هذا الطعام بحجة الإسراف !! * تدخل ثالث وبحماس : لاهذه.. ولاتلك..أرى أن لاتُرفض هذه الدعوات..وأن لايُبالغ في تقديم الطعام. * تدخل آخر : ياجماعة .. إن الذين يرفضون مثل هذه الدعوات لايريدون تكليف الآخرين لأنهم يعرفون أن صاحب الدعوة لن يستجيب بعدم الإسراف .. بل تصبح مجالا للتنافس المذموم !! والعلاج أن ينصرف الأقرباء من المعزين عند الأذان لصلاة الظهر، ويعودون بعد صلاة العصر ، ثم الإنصراف مرة أخرى عند الأذان لصلاة العشاء ، وهكذا بقية أيام العزاء ، وذلك لإعطاء أهل العزاء فرصة لإلتقاط الأنفاس ولإلتمام الأسرة معا ،ولكي يكون الطعام المقدم خاصا بهم فقط ، وهذا هو المشروع ، وبذلك نقضي على الإسراف في ولائم العزاء .. * تململ أحدهم واستقام بجلسته وتحرك إلى الأمام مقتربا من حافة المقعد وقال : لاتنسون بأنكم في مجلس العزاء وصوتكم بدا يعلوا ومن الحاضرين في المجلس الآخر من شارك بتقديم الطعام وهم يستمعون جدالكم .. فلا تكثروا نقدهم !! فجزاهم الله خيرا على ماقدموه . * وفي آخرنهارهذا اليوم تبدلت الوجوه بحكم الحركة المستمرة للمقيمين وللداخلين والخارجين بلا عودة .. فأخذ الجو يأخذ منحىً آخر.. وبدأت عجلة الحياة تعود لسابق عهدها واصبح الطابع العام والجو أكثردنيوية .. ضحك .. مزاح .. تعليقات .. قفشات بين الحاضرين .. هذا فيما يتعلق بالمشاركين في العزاء من الأقرباء والأصحاب والجيران .. أما أسرة الميت فبلا شك بأن الحزن العميق بادٍ على وجوههم ومرارة الفراق ظاهرة على مُحيّاهم .. أعانهم الله .. وعند وداعهم لسان حال المودّعين يردد : اللهم اجرهم في مصيبتهم وأخلف لهم خيرا منها . ( رؤية / عبدالعزيز النعام )