يقول من عدا على راس عالي رجم ٍ طويل ٍ يدهله كل قرناس في راس مرجوم ٍ عسير المنالي تلعب به الأرياح مع كل نسناس مطلع قصيدة رائعة للشاعر الراحل محمد الأحمد السديري وهي قصيدة اشتهرت كثيرا وذاع صيتها وأصبحت أبياتها تردد في كل مكان ويحفظها الصغير والكبير بل تعدى ذلك إلى أن تستخدم بعض أبياتها كالأمثال الشعبية. وهنا أتساءل لماذا اشتهرت هذه القصيدة وحققت كل هذا النجاح ؟ هل خدمت إعلاميا وساهم هذا السبب في وصولها إلى أكبر شريحة من الجمهور وإذا كان هذا السبب مقنعا بعض الشيء قياسا بشعراء اليوم لماذا هذه القصيدة تحديدا لماذا لم تشتهر قصيدة أخرى وتحظى بنفس ماحظيت به هذه القصيدة؟ وفي هذه الحالة نستبعد الاحتمال الأول لاسيما ونحن نعلم أن هذه القصيدة قديمة جدا وفي ذلك الوقت لم تكن هناك وسائل إعلام قوية من فضائيات ومطبوعات شعبية وان كانت هناك صحف فهي غير مهتمة كثيرا بالشعر والشعراء. وقد يقول قائل ربما للحظ دور فيما وصلت إليه هذه القصيدة من شهرة وأقول نعم قد يلعب الحظ لعبته مع الكثير من الشعراء ولكن مع هذه القصيدة تحديدا أجزم أنه لم يكن له أي دور في نجاحها لأن الحظ قد يخدم الشاعر احياناً ولكن هذا الاحتمال كسابقه لأن القصيدة اشتهرت من خلال المجالس التي تجمع الرواة بمتذوقي الشعر حتى أنه يوجد من المتابعين من أحب هذه القصيدة وتأثر بأبياتها وهو لم يجالس قائلها ولم يشاهد صورته قط. أعزائي سنطرح الكثير من الاحتمالات في سبيل الوصول إلى السبب الحقيقي وراء شهرة هذه القصيدة ولكن في نهاية المطاف سنجد أن الإبداع هو السبب الأول والأخير في شهرتها. وإذا أمعنا النظر في أبياتها نجد أنها اشتملت على الكثير من جماليات الشعر فنجد بها الحكمة الناتجة عن تجربة واقعية وملموسة أضف إلى ذلك جمال الألفاظ وقوة المعان والترابط الجميل بين أبيات القصيدة. لاخاب ظنك بالرفيق الموالي مالك مشاريه ٍعلى نايد الناس وهذا البيت اشتهر كثيرا لأنه من الواقع والجميع يدرك هذا الأمر واستطاع الشاعر أن يترجم هذه الأحاسيس الصادقة ببيت شعر سيخلده التاريخ واستحق أن يصبح مثلا شعبيا في وقتنا الحاضر. حملي ثقيل وشايله باحتمالي واصبرعلى مرالليالي والاتعاس وهنا يتحدث الشاعر عن معاناته بقوله ( حملي ثقيل ) وهذا الحمل عبارة عن هموم أثقلت كاهله وبالرغم من أن حمله ثقيل إلا أنه شايله باحتمالي كما أنه لا يجد حلا مناسبا لمجابهة همومه وأحزانه سوى التحلي بالصبر وكما قيل الصبر مفتاح الفرج. أزريت أعد أيامها والليالي دنيا تقلب ماعرفنا لها قياس دنيا تفرق بين غالي وغالي لو شفت منها ربح يرجع للافلاس وهذا البيت امتداد لما سبقه من أبيات المعاناة، ولعل مايلفت النظر في هذه القصيدة استخدام الشاعر لألفاظ دارجة بعيدة كل البعد عن التعقيد اللفظي مستعينا بلهجته البدوية الأصيلة وبالرغم من بساطتها إلا أنها كانت مؤثرة جدا في معانيها و( أزريت ) بمعنى تعبت ومللت وقوله أعد أيامها والليالي دلالة على تعبه الشديد نتيجة الهموم والأحزان التي ذكرت سلفا وفي الشطر الثاني وصف رائع و دقيق للدنيا بلفظ ( تقلب ) وهي بالفعل متقلبة فلا تدوم على حال! وفي البيت الثاني تأكيد على ماقال حيث ذكر مثالا على ذلك وهو أن الفراق نهاية المطاف لكل محب ويضيف أنها مهما صفت ويعني بذلك ( الدنيا ) لايدوم صفاؤها فهي إلى زوال. لاصار ماهو مدهلا للرجالي وملجا لمن هو يشكي الضيم والباس ومن خلال هذا البيت نستطيع أن نكتشف بعضا من الصفات التي كان يتحلى بها الشاعر فنستطيع أن نكتشف أنه كان كريما مثلا وكلمة ( مدهلا ) تدل على ذلك كأن يكون المنزل كخلية النحل مابين داخل ٍ وخارج من الرجال وفي الشطر الثاني بدأه ب ( ملجا ) وبهذه الكلمة دفء وحنان وشعور بالأمان والاطمئنان وندرك أن من تم اللجوء إليه بعد الله سبحانه وتعالى رجل قوي لديه حكمة في حل مشاكل الآخرين ومساعدتهم. متى تربع دارنا والمفالي وتخضر فياض ٍ عقب ماهي بيباس وهنا بدأ البيت ب ( متى ) وهي تدل على شوقه الكبير وانتظاره بفارغ الصبر لهطول الأمطار، بعد ذلك نجد أن الشاعر لم يغفل الترتيب المنطقي لحدوث الأشياء التي يترتب عليها حدوث أشياء أخرى فبدأ أولا بهطول الأمطار ومن ثم اكتساء الأرض باللون الأخضر وهي نتيجة طبيعية لهطول الأمطار إذا كانت في أيام الوسم. وتكبر دفوف معبسات الشمالي ويبني عليهن الشحم مثل الاطعاس ولعل اللافت في هذه القصيدة أن التشبيهات جاءت من ذات البيئة التي ينتمي إليها الشاعر فنجد أنه شبه سنام الإبل بالأطعاس وهو جمع ( طعس ) وهو معروف لدى الجميع ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بعد موسم ٍ ربيعي وهي الخطوة الثالثة حسب ترتيب الشاعر فبعد هطول الأمطار واخضرار الأرض بمختلف الأعشاب تأتي رؤية أثر ذلك على الكائنات الحية جميعها وخص الإبل لمكانتها الكبيرة عند العرب، ونلاحظ أنه استخدم لفظ ( يبني ) في بداية الشطر الثاني وكأنه يتحدث عن بناية من ( البلوك ) وهذه الكلمة شائعة ومعروفة خصوصا بين أبناء البادية وينوب عنها أحيانا كلمة ( يضرب ) . وأرى في الختام أن هذه القصيدة الرائعة التي تستحق الوقوف كثيرا أمام أبياتها لما حملته من جزالة وصور شعرية غاية في الروعة والجمال وأرى أيضا أنه من المفترض أن تكون هذه القصيدة معلقة في وقتنا الحاضر حتى وان لم تكتب في زمن المعلقات المشهورة ولا يتوقف عند هذا الحد بل ويدرج اسم قائلها مع اسم عنترة بن شداد ورفاقه. صالح البلوي