يصور الشاعر الراحل محمد بن أحمد السديري الواقع في نصه الشهير الذي شدا به الفنان محمد عبده، والذي يقول في مطلعه «يقول من عدا على راس عالي»، وهو تصوير مزدوج لواقع الشاعر، بين ما هو كائن وما هو مأمول، وهذا التصوير نابع من روح الشاعر التي لونت له الحياة وفق انعكاسات ذلك الواقع على نفسيته، فهو حينما يغضب تكون الصورة أمامه سوداوية قاتمة، بينما حينما يتأمل ويحلم بتحقيق واقع جديد تكون الصورة أمامه وردية حالمة، هذا ما يمكن أن نقوله عن النص باختصار. لم يأت الشاعر محمد بن أحمد السديري بأمر جديد في مسألة بدء القصيدة، حيث قال: «يقول من عدا على راس عالي» وهذا الأسلوب أسلوب معروف، ولعل بني هلال أول من ابتكروا هذه الاستفتاحيات في الشعر النبطي، وقد سار الشاعر حاله حال غيره من شعراء النبط وفق هذا الاستعمال، وهذا الفعل القولي يعتبر المفتاح الأول لفهم النص، باعتبار أن النص ذاتي بالدرجة الأولى، وذلك من خلال توارد الصيغ التعبيرية الدالة عليه «يقول – قعدت – متذكر – صفقت - أخذت – ما هو بمثلي – أزريت – حملي ثقيل – أصبر – وأرسي – يبعد همومي – لا خاب ظني – مالي مشاريه»، حيث كانت هذه الصيغ التعبيرية الدالة على الذاتية منطلقة من قوله في أول القصيدة «يقول من عدا على راس عالي»، باعتبار أنه المحور الأساس الذي كان يدور حوله هذا النص، لهذا جاءت القصيدة بطريقة احتجاجية واضحة، وكانت نبرة الاحتجاج المتصاعدة في هذه الأبيات تحمل أكثر من وجه، منها الاحتجاج الرافض لغدر الأصحاب والخلان، وكذلك الاحتجاج الرافض لغدر الزمان وتقلبات الأيام. ملامح الشخصية الفنية الملفت في هذه القصيدة، ليس الهجوم العنيف على الواقع، وليست الحكم التي صاغها الشاعر باقتدار من خلال الوزن والقافية، والحكم في الغالب لا تمت للشعر، بل ترتبط بالمنطق والاستدلال العقلي، غير أنها عامل مساعد لفهم الحالة النفسية للشاعر، أقول إن الملفت للانتباه هي هذه القدرة الفنية الجمالية التي مزجت الحقيقة بالمجاز وجعلت القصيدة تتحرك في دوائر أو لوحات فنية، كل لوحة تقود للأخرى، أي أن كل لوحة فنية من هذه القصيدة تعتبر عملا بمفرده، والتي شملت تدرجات المد الشعوري من حزن وتأمل ونفور وعودة، وهذا لا يدل على التشتت؛ لأن الشاعر يتحدث عن عاطفة في الغالب الأعم حالة إنسانية غير مستقرة، وهذا ما سيتضح معنا في تتبعنا لهذه القراءة. الهروب من ظلم الواقع يقول من عدا على راس عالي رجم طويل يدهله كل قرناس في راس مرجوم عسير المنالي تلعب به الأرياح مع كل نسناس في مهمة قفرٍ من الناس خالي يشتاق له من حس بالقلب هوجاس قعدت في راسه وحيد لحالي براس الطويل ملابقه تقل حراس لعل أول ما يواجهنا في هذا النص هو الشعور بالرغبة في الانعزال عن المجموع الكوني والمجموع الإنساني، حيث لا يظهر في هذه البداية إلا صوت الشاعر الرافض للظلم، والهارب من الكون المتمثل بصعوده «الرجم» وهو مجموعة من الأحجار المتراكمة فوق بعضها بعضا، ومنه «المرجوم» الواقع في البيت الثاني، مشبها نفسه بالصقر «القرناس» الذي لا ينزل الأراضي المنخفضة، ويعشق كل ما ارتفع من الأرض، وهذا الهروب قريب من هروب الرومانسيين الذين لم يستطيعوا ردم الهوة النفسية التي تفصلهم عن الواقع، ولن نجازف ونقول بأن الشاعر هنا كان رومانسيا، بل هو شاعر تقليدي، غير أن جنوحه عن الواقع قريب من جنوح الرومانسيين، وعلى هذا الأساس فإن تطلع الشاعر تطلع ذاتي روحي، وليس تطلعا واقعيا، لأنه يريد الخلاص من واقعه المعاش، واللجوء إلى واقع الصحراء الممتد الواسع «في مهمه قفر من الناس خالي.. يشتاق له من حس بالقلب هوجاس»، ويريد مفارقة الناس بما فيهم من حقد وأنانية، ولعل جنوحه الذاتي هذا جنوح تجريدي، لأنه ابن المدينة وسليل أسرة من أعرق الأسر المتحضرة في نجد، علاوة على أنه أدار شؤون بعض المناطق في المملكة العربية السعودية وتقلد منصب الأمير وهو ليس من أبناء الأسرة المالكة في السعودية. التحرر من الحزن متذكر في مرقبي وش غدالي وصفقت بالكفين ياسٍ على ياس أخذت أعد أيامها والليالي نيا تقلب ما عرفنا لها قياس كم فرقت ما بين غالي وغالي لو شفت منها ربح ترجع للإفلاس ياما هفا به من رجالٍ مدالي ما كنهم ركبوا على قب الأطعاس ولا قلطوهن للكمين الموالي ولا صار فوق ظهورهن قطف الأنفاس ولا رددوا صم الرمك للتوالي كل يبي من زايد الفعل نوماس من بينهم سمر القنا والسلالي مثل البروق برايح ليلة أدماس يعتبر صعود «الرجم» الحاصل في اللوحة الشعرية السابقة مقدمة لفهم هذا المقطع، فهو حينما صعد الأماكن العالية توحد مع ذاته، وتوحد مع الكون العلوي بعد أن ترك الناس في الأماكن المنخفضة وغادر الطبيعة البيئية الواقعة في الكون السفلي، لهذا لم يعد معه أحد في هذا الصعود، وهو ما دفعه لتشبيه نفسه بالطير الحر الأصيل «القرناس»، ووفق هذا التصور فإن الشاعر بحاجة للخلاص من همومه، وعليه لجأ إلى هذا الأسلوب الاجتراري للخلاص من كل ما فيه من أحزان وتسلية نفسه بأن الدنيا فانية ولن تدوم لأحد. الشخصية الصبورة هذه اللوحة الفنية تنقسم إلى قسمين على الرغم من أن كلا القسمين امتداد للآخر يقطعك دنيا ما لها أول وتالي لو ضحكت للغبن تقرع بالأجراس المستريح أللي من العقل خالي ما هو بلجات الهواجيس غطاس ففي هذين البيتين تعبير بصيغة العموم، وهو ما يعكس رغبة نفسية لدى الشاعر بأن يتمنى الوصول لهذه الدرجة لا من أجل الخضوع والاستسلام، وإنما هي نزعة إنسانية بحب التخلص من الهموم والمشاكل، وهو ما اتضحت ملامحه مع المقطع الأخير من القصيدة كما سيمر معنا ماهوب مثلي مشكلاته جلالي أزريت أسجلهن بحبر وقرطاس حملي ثقيل وشايلة باحتمالي وأصبر على مر الليالي والاتعاس وأرسي كما ترسي رواس الجبالي ولا يشتكي ضلع عليه القدم داس شخصية الشاعر الواضحة في هذه اللوحة شخصية صلبة لديها القدرة على تحمل أعباء الحياة، في المقابل أن الآخرين ليسوا كذلك وفق نظرة الشاعر التي فهمناها من هذا السياق، وهذا الإحساس بالتميز دفع الشاعر كذلك إلى مدح نفسه والثناء عليها في أكثر من موضع سواء في هذه الأبيات أو في غير هذا الموضع من هذه القصيدة، وكان يرمي الشاعر من هذا الكلام ترسيخ صورة نفسه أمام نفسه، ويريد الافتخار بما لديه من خصال، وأن لديه المقدرة الفذة على إدارة شؤون الحياة بكل اقتدار، وأنه رجل خبر الحياة وخاض معتركها، ولديه معرفة بأحوال البشر وطبائع الرجال وتقلبات الأيام، فهو رجل قوي الشكيمة كما يتضح من هذا الكلام وقادر على مواجهة الظروف الصعبة والتعامل معها بحزم وإرادة ثابتة. هذه الشخصية الصبورة المتبدية في هذه اللوحة الفنية جعلت الشاعر يكون شامخا هنا كالجبال، الأمر الذي دفعه لقول: «وأرسي كما ترسي رواس الجبالي .. ولا يشتكي ضلع عليه القدم داس» للتدليل على كبر حجمه وثباته على الأرض، وبما أننا نقرأ القصيدة قراءة نفسية معتمدين على التأويل اللغوي للمفردات الشعرية فإن من الإمكان أن يكون «ولا يشتكي ضلع عليه القدم داس» تعبيرا مجازيا خرج عن الحقيقة المعروفة، باعتبار أن الإنسان هو مجموعة من «الضلوع» التي تشكل هيكله الجسماني، وعلى أساس هذا التصور الذي نميل إليه ونستأنس به فإن «الضلع» من الرجال هو الرجل الأصيل وابن «الحمولة» العريقة في النسب، ووفق هذا الفهم يمكننا فهم «القدم» بأنه الرجل الأقل منه أو الزمن المتغير غير الثابت باعتبار أن القدم على الدوام متحرك وغير ثابت. الهدوء ونشوة الانتصار يا بجاد شب النار وادن الدلالي واحمس لنا يا بجاد ما يقعد الراس ودقه بنجر يا ظريف العيال يجذب لنا ربع على أكوار جلاس وزله إلى منه رقد كل سالي وخله يفوح وقنن الهيل بقياس وصبه ومده يا كريم السبالي يبعد همومي يوم أشمه بالأنفاس فنجال يغدي ما تصور ببالي وروابع تضرب بها أخماس وأسداس إحساس الشاعر السديري بنشوة الانتصار أمام نفسه دفعه لمواصلة المقاومة الذاتية للظلم، لهذا حضر مشهد القهوة العربية؛ وكأنها فترة انتقالية لما بعدها، حيث تعتبر «الدلال والفناجيل» وعملية الاستعداد لطبخ القهوة ومن ثم التمتع بشربها مسألة خدمت النص وخدمت كذلك حالة الشاعر النفسية في آن، وقد انعكس هذا الموقف في هذه الأبيات التي تحدث فيها الشاعر عن القهوة، مناشدا صاحبه «بجاد» بأن يجد ويجتهد لعمل القهوة، وفي هذا المشهد لم نلحظ حوله أناسا آخرين غير «بجاد» الطاهي للقهوة، ومهما تكن حقيقة شخصية «بجاد» في هذه اللوحة الفنية فإن الشاعر لم يكن في منأى عن العرف العربي والنبطي، فيما بعد في توجيهه للخطاب الشعري للصاحب والرفيق، حيث نلحظ أن الضمير تحول من صيغة المفرد كما في السابق إلى صيغة الجمع «أحمس لنا يجذب لنا»، ومما يؤكد الاعتقاد الذي نميل إليه بأنه كان يعني نفسه في هذين الضميرين قوله فيما بعد «يبعد همومي يوم أشمه بالأنفاس» ، أما الربع الذين يتخيلهم قادمين إليه وهم راكبوا أكوار الإبل، إنما هي إضافة افتراضية لواقع يأمل تحقيقه ويرجو الوصول إليه. الانفعالية والبعد عن الواقع لا خاب ظني بالرفيق الموالي مالي مشاريه على نايد الناس لعل قصر ما يجيله ظلالي ينهد من عال مبانيه للساس لا صار ما هو مدهل للرجالي وملجا لمن هو يشكي الضيم والباس بحسناك يا منشي حقوق الخيالي يا خالق أجناس ويا مغني أجناس تجعل مقره دارس العهد بالي صحصاح دو دارس ما به أوناس البوم في تالي هدامه يلالي جزاك يا قصر الخنا وكر الأدناس الشاعر لم يحتمل العيش بصمت، وأبى إلا أن يعلن موقفه الصريح بكل وضوح ودون محاباة أو شعور بالتبعية «لا خاب ظني بالرفيق الموالي.. مالي مشاريه على نايد الناس»، فهو هنا يقطع كل صلة له بالواقع، ويتجرد من كل إحساس بذلك الواقع الذي تحول عنده إلى ركام، وأدار ظهره عن الدنيا التي كان يعيش فيها، وبدأ يتخيل واقعه الذي ظل يلوح له من وراء الأفق، وهو يتخيله قادما إليه مخترقا حجب الغيب وستائر المجهول، كما هو واضح بجلاء في اللوحة الفنية التالية والأخيرة من هذا النص، لهذا جاءت عباراته الشعرية حادة عنيفة شرسة، وذلك أنه لم يعد نادما على ما سيخسره فيما بعد. لعل قصر ما يجيله ظلالي ينهد من عال مبانيه للساس ثم قوله بعد ذلك: تجعل مقره دارس العهد بالي صحصاح دو دارس ما به أوناس البوم في تالي هدامه يلالي جزاك يا قصر الخنا وكر الأدناس كإشارة على أنه وصل درجة عالية من التأزم النفسي، مما دفعه لقول كل شيء دون تفكير بالتراجع، راغبا بالخلاص من هذا الواقع، ونفض كلتا يديه منه. التأمل والحلم متى تربع دارنا والمغالي وتخضر فياض عقب ما هيب يباس نشوف فيها الديدحان متوالي مثل الرعاف بخصر مدقوق الألعاس وينثر على البيدا سوات الزوالي يشرق حماره شرقة الصبغ بالكاس وتكبر دفوف معبسات الشمالي ويبني عليهن الشحم مثل الأطعاس الشيء المثير للانتباه في هذا النص، أن الكثير من الناس تعلقوا بهذه القصيدة وتعاطفوا معها، حيث أرى أن هناك عاملا قويا جدا، لم ينتبه إليه الكثيرون، وهو أن الشاعر أشبع رغبتنا الإنسانية في الارتواء من قيم الرجولة والشهامة والكرم، وعمل على تغذية قيم الإنسان ومبادئه العليا الكامنة في ذات كل واحد منا، علاوة على هذا النفس الرومانسي الذي سكبه في منعطفات هذا العمل الشعري، والذي جاء بطريقة تختلف عن طريقة الرومانسيين، وكان يتطلع للهروب من الواقع راغبا بالطبيعة، حيث لا حقد ولا أنانية في التعامل مع الحياة من خلال الاستمتاع برؤية «الديدحان» وهو نوع من أنواع النباتات قريبة من شقائق النعمان كما يبدو، والذي شبهه ب«الرعاف» في خصر «مدقوق الألعاس» أي كالخرز الجميل في وسط الفتاة النحيلة الممشوقة القوام، مستبدلا عالم البشر بعالم الإبل «معبسات الشمالي» وهي النوق من الإبل المعروفة ب«الخلفات»، «والشمال التي مفردها الشملة».