في ذلك المحل الصغير الذي قبع تحت واحدة من البنايات المحيطة بالحرم النبوي أمسكت بكنزي الأزرق وكأنني أخشى أن افقده فأفقد ذلك الحنين الذي بثه فيّ منذ رأيته. بدأت أشرح لرفيقتي سر تعلقي بذلك التلفزيون الصغير وذكرياتي القديمة معه وكأنني أحاول ان أبرر لها ما رأته منى تجاهه، فاكتشفت أنها ممسكة بواحد آخر. أخبرتني وهي تضحك أنها تملك نفس الذكريات تقريبا، وأظن أن جيلنا كله يحمل الشعور نفسه تجاه ذلك السحر المكتنز بالصور الثلاثية الجميلة لمناسك الحج. اشتريت أربع دزينات من ذلك التلفزيون لأنني نويت أن أهدي واحدا منه لكل من أعرفه من جيلي..لا بد أنها ستكون هدية مفرحة وظريفة. كنت لا أزال أختار بعض الهدايا الأخرى عندما لاحظت أن البائع الذي يبدو في السبعينات من عمره يتحدث مع حاجة تركية بلغتها كما أتضح لي. عندما انتهى منها قادني فضولي لأن أسأله أين تعلم اللغة التركية بكل هذه الطلاقة؟ فضحك قائلا: إنه يجيد بضعة لغات أخرى.. آسيوية وافريقية بالاضافة الى الانجليزية والفرنسية، وعندما لاحظ استغرابي أضاف قائلا؛ أنه اكتسب ذلك كله بحكم خبرات السنين التي تراكمت في التعامل مع حجاج يتحدثون هذه اللغات مروا به على مر الزمن الطويل، فهو يعمل في هذا المحل منذ طفولته أي منذ أكثر من ستين عاما.. وقد مر عليه الحجاج أشكالا وألوانا وثقافات ولغات..لذلك هو يتحدث كثيرا من لغاتهم من دون أن يعرف كيف تقرأ أو تكتب هذه اللغات. وماذا أيضا يا عم؟ سألته، فأجاب ضاحكا: أعرف اللهجة الكويتية أيضا.. وللتدليل على معرفته تلك تحدث معي بقية حوارنا بلهجتي من دون أن يخطي بأي كلمة أو لكنة.. وقبل أن أترك المحل عن لي أن أسأله عن أفضل من تعامل معهم من البشر الذين مروا عليه، فأجاب من دون تردد وكأنه أجاب على هذا السؤال عشرات المرات: الأندونيسيون ثم الماليزيون. إنهم منظمون ويعرفون ماذا يريدون وهادئون جدا ولا يفاصلون في الأسعار ويندهشون من كل ما أقدمه لهم و.. وقاطعته أسأله عن الأسوأ، فقال: أنتم. نحن؟؟ يا للهول!.. وعندما لاحظ امتعاضي أكمل شارحا كمن يعتذر بلطف وابتسامة: لا أقصد انكم سيئون لكنكم لا تندهشون من شيء ولا يعجبكم العجب. كلما عرضت شيئا من بضاعتي التي أعتقد أنها جديدة قال لي الواحد منكم: هذا موجود عندنا من زمان.. ثم أنكم تفاصلون كثيرا في الأسعار وتنجحون غالباً في المفاصلة. بررت له الامر بأن المجتمع الكويتي مجتمع تجاري منذ القدم ويجيد التعامل مع الباعة بالمفاصلة وغيرها، وأن الكويتيين كثيروا الاسفار فعلا مما يجعلوهم يطلعون على كل ما هو جديد في الأسواق مبكرا، كما أن السوق الكويتي فعلا حافل بكل جديد، والكويت أحد المحطات الأولى لكل المنتجات الاستهلاكية لأسباب عديدة. ضحك الرجل وقال إنه يعرف كل ذلك أكثر مني، وأنه قال ما قاله فقط لأنني سألته، ولأنه يحب أن "يتغشمر" مع الكويتيين تحديدا. قال المفردة التي تعني "يمزح" باللهجة الكويتية تدليلًا على إجادته للهجة كما يبدو. في محلات المدينةالمنورة المتناثرة حول الحرم كل ما يمكن أن يخطر على بالنا من هدايا وتذكارات الحج التقليدية، لكن الوقت لم يكن ليسمح لي بالتبضع على مهلي، فقد كنت أطالع الساعة وأنا أتنقل من محل الى آخر، أتحدث مع الباعة أكثر مما أتفرج، وأفاصل أكثر مما أشتري.. هل أثر في حديث ذلك البائع المخضرم عن طبع المفاصلة لدى الكويتيين فأحببت أن أرسخه فعلا خاصة وأنني عادة لست ممن يجيدون المفاصلة ولا يحبونها أصلا؟ كان الوقت ضحى عندما التأم شمل الرحل في الحافلة، فقد انتهت الرحلة الجميلة وعلينا أن نتنفس أخر هواء ربما تنفسه رسول الله عليه الصلاة والسلام ذات يوم. كنت أستحضر هذه الأفكار كثيرا في المدينةالمنورة. ألمس حصاة فأقول في نفسي ربما لمسها ذات يوم رسول الله، وأستند على نخلة وأقول من يدري؟ لعلها نبتت من نواة تمرة أكلها رسول الله ورماها هنا.. أمر بجبل صغير فأقول لعل ذلك التجويف اللطيف الذي يبدو الى جانبه قد احتضن رسول الله.. ألم يكن يحب الاختلاء بنفسه في تلك الأمكنة؟ والبيوت.. البيوت حكاية أخرى بالنسبة لي.. أنا العاشقة لهندسة البيوت واختلافاتها الإنسانية ايضا. ألم يبق في المدينة بيتا أو جدارا من ذلك الزمن القديم؟ كنت أبالغ كثيرا في تلك الأفكار والرؤى الفائضة بالتساؤلات، ولا أدري إن كان الآخرون مثلي في تداولها بينهم وبين أنفسهم وهم يمرون بتلك الأمكنة أم لا. لكن سؤالي الاكبر من ذلك كان عن أهل المدينة أنفسهم؛ هل يستشعرون عظمة ما هم مقيمون فيه فعلا؟ أم أن الامر بالنسبة لهم أصبح عاديا فصاروا ينظرون للمكان كما ننظر نحن للأمكنة التي نقيم فيها؟ هل تطاوعهم قلوبهم مثلا على ترك المدينة للإقامة في أماكن أخرى؟ لا بد أنهم يفعلون تحت وطأة الأضطرار.. ثم هل يصلون كل صلواتهم في الحرم النبوي؟ لفتني مثلا ما قالته لي بائعة جالسة أمام سوق مركزي كبير في المدينة أثناء رحلة التسوق السريعة عندما سألتها السؤال الأخير فقالت لي لحظتها أنها وكثيرون من أهل المدينة لا يفضلون الصلاة في الحرم النبوي في موسم الحج تحديدا وذلك حتى لا يضيقوا المكان على ضيوف النبي الكريم وضيوف مدينتهم الفريدة من نوعها، أما بقية الأيام فأغلبهم يصلي في الحرم فعلا. أعجبتني تلك الفكرة الكريمة منهم وأعجبتني بشاشتهم التي كانت تتبدى في كل توصال لي مع أحد منهم. أهل المدينةالمنورة يختلفون عن أهل مكة، وفي كل منهما بركة ما يجاورونه. لكن أهل المدينة "غير"..! (يتبع..)