بخل الأثرياء «القعيطية» ترك مساحة من الوجع، وربما الأسى في نفوس الأبناء، وتحديداً من كان حلمه أكبر من واقعه رغم أنه يستطيع صناعة الفارق بمال أبيه، وحسم معاناته إلى حالة فرح وزهو و»شوفة نفس» أحياناً. حالة الأب البخيل والمليء بحاجة إلى توقف؛ ليس في تحليل الأسباب، والتأكد منها، ومراجعتها، وتنقيحها، ولكنها أكبر من ذلك، وتحديداً في حجة «ما حسوا بقيمة الدراهم»، وثقافة «اللي جاء بالساهل يروح بالساهل»، و»خلهم يعانون مثلنا»، و»كد على نفسك يا مال الشحم».. ومع كل ذلك سيوفر الزمن نصيب كل واحد من الأبناء ساعة حصر الورثة وتوزيع الميراث. إنت رجال وقال «عبدالعزيز السيف» إنّه من المؤلم أن يبخل الأب على أبنائه، فكيف إذا كان ثرياً وشحيحاً وابنه محتاجاً؟، وقد يكون هذا الإبن فقيراً مقارنة بثراء والده أو قد تكون حالته المادية رديئة، مبيناً أنّ صديقه لديه ستة من الأبناء يسكن في شقة لا يوجد بها سوى غرفتي نوم، وغرفة جلوس، ودورة مياه، وراتبه زهيد، فبحث عن منزل صغير حتى عثر عليه، واقترض جزءاً من قيمته، وتبقى له جزء بسيط، فلجأ إلى والده علّه يسهم معه في تأمين المبلغ المتبقي، فاعتذر ورد عليه «اعتمد على نفسك إنت رجال!». شح ومباهاة وبينت «العنود سليمان» أنّها وثلاثة من أشقائها يدرسون في مدرسة أهلية، ووالدها من يدفع الرسوم للمدارس جميعها، ويكتفي بذلك، حيث إنّه رغم غناه يبخل بجميع متطلباتهم، ابتداء بالمصروف اليومي وحتى أكبر وأهم احتياجاتهم، وشح عليهم حتى ألحق بهم الضرر، موضحةً أنّه عندما طلبوا منه إلحاقهم بمدارس حكومية، حتى يمكنهم أن يستغلوا رسوم المدارس الأهلية يرفض ذلك ويرد عليهم ب»أبنائي لا يتعلمون إلاّ في المدارس الفلانية»، مشيرةً إلى أنّه سجلهم بمدارس أهلية من أجل مباهاة أقاربه وزملائه فقط لاغير، بينما هم يتضورون من الجوع أحياناً داخل المنزل، كاشفةً أنّ أمها من تعمل على تأمين متطلباتهم وتعويض النقص من احتياجات المنزل، فهي تستند على أمها ال»جدة»، وهي ميسورة الحال، وأحياناً كثيرة تضطر للإقتراض من زميلاتها. ثلاث زوجات! وأشارت «عفاف محمد» إلى أنّ والدها لديه ثلاث زوجات، وجميعهن يعتمدن على أنفسهن في الإنفاق على البيت والأولاد، أمّا الوالد فيقتصر إنفاقه على دفع فواتير الكهرباء والهاتف، موضحةً أنّ والدتها معلمة تأمن طلبات أبنائها بأكملها أمّا زوجات أبيها الأخريات فإحداهن موظفة براتب ضعيف لا يكفي لمصاريف المنزل والأبناء، والثالثة لا تعمل، والحمل بأكمله يقع على عاتق إبنها الأكبر، حيث إنّه الوحيد الذي يعمل، لافتةً إلى أنّ أغلب أفراد الأسرة تعصف بهم الديون ويسددونها بشق الأنفس، مع أنّ والدهم غني، مفيدةً أنّه في كل مرة يطلبون منه المساهمة ومد يد العون تثور ثائرته فيرد عليهم «من أين لي؟»، ثم يردد عبارته التي دائماً ما يقولها في هذه المواقف «هل تتوقعون أن أحرث الأرض فتنبت لي المال؟». حقيقة مؤلمة وأوضحت «فاطمة» أنّها لم تكن تعلم بغنى زوجها إلاّ بعد وفاته، حيث عاشت معه (11)عاما وكان يحرم نفسه وأهله الكثير والكثير ليس من الملذات وإنما من الضروريات، مضيفةً: «بالطبع لا يحق لي إلاّ الدعاء له، ولكني كل ما أود أن أشدد على الآباء الأثرياء وميسوري الحال أن يتفضلوا على أبنائهم بما تفضل به الله عليهم، ليشعروا بسعادة أبنائهم، ويعيشوا بالنعمة التي وهبهم الله إياها قبل أن يغادروا دنياهم، كما سيفوزون بالدعاء من الأبناء في حياتهم وعند الممات». ضعف الثقة وأفادت «دلال عبدالله الغانم» أنّ هناك فئة تعشق المال لذاته، وتهيم بحبّه، دون أن تتخذه وسيلة إلى سعادة دينية أو دنيوية، وإنّما تجد أنسها ومتعتها في اكتناز المال فحسب، ومن ثمّ تبخل به أشدّ البخل، موضحةً أنّها من أخبث الصفات وأرذل الأخلاق، معتبرةً أنّ ذلك نتيجة خبرات وتعاملات متراكمة اكتسبها الزوج من أبويه أو من أشخاص لهم تأثير في حياته أو قد تعود إلى ظروف اجتماعية قاسية عاشها، ولهذا يجد الشخص المبتلى بهذه الآفة صعوبة في أن يروض نفسه على البذل، مضيفةً أنّ الأب تعاني منه الزوجة والأبناء، وذلك من خلال نقص احتياجاتهم الأساسية، وهذا سيولد آثاراً اجتماعية، ونفسية، منها انعدام الاحترام للأب، وكذلك ضعف الثقة؛ نتيجة لعدم الوفاء بمتطلباتهم المادية والمعيشية. أولى الناس بالإنفاق ونصحت «تهاني الدريس» الآباء بأن يتقوا الله في أبنائهم، فهم قطعة منهم، وسيحاسبون على تقصيرهم تجاههم، مبينةً أنّ المال هو هبة من الله يختبر فيها عباده من خلالها، متعجبة كيف يهنأ الأب الشحيح بالنوم وأبناؤه في ضيق، ويحسبهم الناس أغنياء من التعفف، مفيدةً أنّ بعضا من الآباء لا يعلمون أنّ المال يجب إنفاقه في وجوه الخير، وأنّ الله يحب أن يرى أثر النعمة على العبد -دون إسراف-، وأولى الناس بالإنفاق هم الأبناء. الخوف من المستقبل وأكّدت «أماني الحامد» -أخصائية اجتماعية- على أنّ البخل صفة سيئة، ويقصد بها كنز المال وجمعه وعدم إنفاقه في المباح، وقد يتم تبرير ذلك بحجج واهية كالخوف من المستقبل، حيث يدخل الأب الثري دارة البخل دون أن يشعر؛ لمواجهة الخوف من المستقبل بالإدخار القاسي، وقد ينفق على نفسه ويغدق عليها وفي الوقت نفسه يبخل على أبنائه، إلى جانب أنّه قد يكون شحيحاً، وهذا أقبح أنواع البخل وأشدها على الأب والأبناء، فبسببه تنهار الأسرة، وخاصة إذا سلك الأبناء طرقاً غير مشروعة في سبيل الكسب وتأمين احتياجاتهم، وقد تضطر الزوجة إلى التسول. حب الذات ونوّهت «الحامد» بأنّ بخل الآباء الأثرياء على أبنائهم هو نتيجة لحب الذات، وضعف الشعور بالمسؤولية أو انعدامها، فالأبناء هم أحوج ما يكونون إلى مساعدة وعطف والدهم، كما أنّ البخيل على أبنائه سيفتقد إلى روح الألفة والتلاحم والتعاطف بينه وبين أفراد أسرته، مضيفةً: «بعض الآباء يعتقدون بأنّ الإبن إذا تزوج فالأب يتخلى عن مساعدته كلياً، وقد نرى على أرض الواقع أبناء يقعون في ضائقة مالية كبيرة، وديون، وضيق في العيش، والأب يقف موقف المتفرج»، متسائلةً: «أين الرحمة، والعطف، الذي يجب أن يسود علاقة الأب بابنه؟، فإذا كان البذل مطلوبا منا، بل ومفروض علينا تجاه إخواننا المسلمين ممن لا نعرف فكيف بالأبناء؟»، مستشهدةً بقوله تعالى: «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة». وقالت «الحامد»: « فطر الله قلوب الآباء على محبة ورعاية الأبناء، ولهذا فالعطاء والمنح ينبعان تلقائياً وبالفطرة، حيث يشعران الباذل بالسعادة، ولذلك يتألم الواحد منا إذا سمع عن بعض الآباء قد شذت فطرتهم، وحين يشتكي أبناء من شح آبائهم وامتناعهم عن تأمين احتياجاتهم، حتى إنّ معظمهم يعاني لوعة الفقر، وقد يصل به الأمر إلى التسول».