في الماضي غير البعيد قبل الثورات العسكرية كانت هناك في الأوساط العربية توزّعات تخصص فيما تمارسه الفئات الاجتماعية من حوارات مع بعضها.. مثلاً نجوم الفن لم تكن تستهويهم سخونة الأخبار السياسية، وإنما كانوا يعطون فنونهم، وتخصصاتهم.. ما يجيدون الحديث عنه.. المثقفون بكفاءاتهم المختلفة.. كانوا قدرات تطوير للمفاهيم والمعلومات، بل إن بعضهم كانوا مراجع خصوصيات مذهلة في أكثر من بلد عربي.. وتأتي إلى الإعلام فتجده أكثر نزاهة فيما يطرحه من آراء، ولم يكن السياسيون تحت تأثير ولاء مدفوع القيمة.. كيف هو واقع العالم العربي الآن؟.. دع السياسة جانباً برجالها المختصين وتأمل لغة مختلف الأوساط الاجتماعية.. أليس الكل أصبح متخصص سياسة؟.. نعم الكل أصبح متخصص سياسة حتى ولو كان قائد سيارة أجرة أو عامل مقهى متواضعاً.. وبالذات بعض الممارسات الصحفية من قبل أشخاص يبحثون عن الدفع المادي لا المنطق، وفئة أخرى تعاني من جهل الحقائق.. إن توسع الاهتمام الاجتماعي بشؤون السياسة المحلية لو كان هناك توفّر وعْي عام لأمكن اعتباره حالة تطور مرغوبة، وإنما المصيبة في أنه يأتي وهو انفعال واقع قلق.. انفعال واقع ألم.. تتجاذبه ظروف فقر.. وظروف خصومات.. ومشاعر يأس.. بهذا التضاد المعلوماتي والنفسي تلمس الفروق صارخة بين مجتمعات آسيوية وأخرى أمريكية جنوبية ومعجزة أفريقية تسمى دولة جنوب أفريقيا.. بأنها اهتمت بنوعية ما تفعل أكثر مما اهتمت بنوعية ما تقول.. إنها اتجهت بحزم جماعي نحو حضور تطور أعطى نتائج مبهرة.. إن الخطر على دول الخليج العربي يتمثل فيما لو اخترقها مثل هذا الهوس اللفظي وتوقّدات المشاعر دون أن تكون هناك موضوعية اتجاهات نحو غايات يباركها الجميع.. وفي الواقع كانت هناك بدايات جيدة لعالمنا العربي وبالذات قبل ستين عاماً تقريباً في أكثر من سبع دول عربية، لكن وصول السيادة العسكرية إلى واقع الهيمنة المطلقة على وسائل الحكم بل حتى أيضاً على توجهات الأفكار في أذهان المواطنين.. هو الذي حجز منطلقات الوعي.. على سبيل المثال قارن بين واقع الحاضر الذي أصبحت فيه فوضى المفاهيم منطلقات للخصومات وبين حقائق الماضي التي فتحت آفاقاً للمستقبل تم إفسادها بفرض أوهام مجْد لم تحدث، بل الأكثر إيلاماً وقسوة وجود ما يشبه غطاء معلومات تصعب معه رؤية حقائق الفقر وقسوة مسارب الخصومات لأن كل ما يُردد ويُقال هو ما يُروّج كواقع كاذب..