كان لديّ قلم عزيز عليّ جداً جداً، وكنت حريصاً على هذا القلم فلا أستعمله إلا نادراً، ولا أكتب به إلا الأشياء المهمة أو التي أراها مهمة،.. ولا يخطر ببالي أن أعرضه لسفر أو خطر.. خوفاً من التلفة وكنت إذا رأيته تذكرت بيت عروة بن الورد مخاطباً زوجته التي كانت تحذره من مغبة الأسفار والمخاطر: «تقول سليمى لا تعرض لتلفة وليلك عن ليل الصعاليك نائم فآليت على نفسي ألا أعرضه للتلفة ولكن الله غالب على أمره وإذا أراد شيئاً فعله، فقد سافرت ذات مرة وعندما حططت رحالي في أحد الفنادق وجدته بين أمتعتي «أوراقي وكتبي» فارتعت لمرآه وقلت ما الذي جاء بك أيها العزيز؟ وزاد خوفي ووجلي عليه، فنزلت من فوري واشتريت عدة أقلام وضعتها إلى جانب سريري وفي جيوبي تحسباً لأي طارئ وخوفاً من الاضطرار لاستعمال قلمي العتيد.. وبعد أيام ألح عليّ رفيقي للانتقال من الفندق إلى فندق آخر، ومن المكان الذي كنا آمنين فيه مطمئنين نقرأ ونكتب ونستمتع بطيب الهواء ونقاء الفضاء والجبال المكللة بالأشجار وقطع الغيوم. نستمتع بطلوع الشمس البكر والحقول الواسعة ورائحة الحصائد ومناهل الماء، إلى مكان آخر وسط المدينة وحاولت أن أثني هذا الرفيق عن فكرته، إذ أن هدفنا من السفر كان الاستقرار والاستجمام والراحة وهو ما وجدناه في هذا المكان الظريف اللطيف الأليف.. ولكن صاحبي ركبه العناد وأخذته عزة التغيير بإثم العاقبة.. وانتقلنا إلى المكان الذي يريد، حيث حجز لنا فندقاً وسط المدينة وكنا في ريفها القصي، وكان انتقالاً مملاً فقد تعرضنا لبعض المواقف المزعجة والمتعبة، ولما وصلنا وحللنا بالفندق الجديد انقبضت نفسي، وهذا طبع لا أعرف سببه فأنا أرتاح للأمكنة كما أرتاح للأشخاص وأشمئز منها كما أشمئز من بعض الآخرين.. لم أشعر بارتياح للمكان، ولا للناس في المكان، ولا للناس حول المكان فالفندق صاخب، والناس فوضى، والجو غير مريح.. صراخ في السلالم، صراخ في المصاعد، فوضى في بهو الفندق حيث اختلط الحابل بالنابل.. نساء يستعرضن ملابسهن وفتنتهن في وقاحة وتبّذل تافه، وشبان هائمين لا شيء في رؤوسهم غير العبث واللهو والفوضى وقلة الذوق.. وقلت لصديقي أهذا فندق أم سوق عامة..؟ فقال لابد أن تتعود علىأجواء المكان.. مثلك مثل بقية الناس.. قلت لست مثل بقية الناس ولا أرضى لنفسي أن أضع رأسي في هذا السيل من القطعان.. وأنا لا أحتمل البقاء هنا.. وتركته وذهبت أفتش عن فندق هادئ لا صخب فيه ولا صراخ ولا استعراض أبدان وتفاهة عقول.. وبعد مشقة وجدت مكاناً مريحاً وعدت إلى الفندق كي آخذ حقائبي.. وحينما وضعت «الكرت» في الباب لم ينفتح فنزلت إلى موظفة الاستقبال متسائلاً فقالت لقد أجّرنا الغرفة لأننا علمنا من صاحبك أنكم ستغادرون.. فقلت وأين حقائبي وأوراقي وأشيائي..؟ فقالت كلها في المستودع.. وبعد فترة مملة من الانتظار أخرجوا ما في المستودع: الحقيبة، والكتب، والأوراق إلا القلم.. فصحت أين القلم؟! إنه أهم عندي من جميع هذه الأمتعة.. فصرّت وجهها وقالت لقد جمعنا ما في الغرفة وهذا هو أمامك وتركتني.. ذهبت إلى مسؤول الفندق ورجوته أن يبحث عن قلمي الذي غيبوه ولكنه قال في النهاية: لسنا لصوص أقلام، هذا فندق محترم وكل من فيه محترم.. فبلعت غيظي وسكت، وظلت ذكرى قلمي حسرة في قلبي.. ومرت الأيام وعدت إلى المدينة بعد عام ومن شدة تعلقي بقلمي قلت في نفسي أذهب وأسأل لعل وعسى.. دخلت مع صديق عزيز وكأننا نسأل عن سكن وحين وقفت عند مكتب الاستقبال رأيت الرجل المحترم الذي قيل إنه مدير الفندق.. ورأيت بريقاً رائعاً ينبعث من جيبه.. اقتربت وإذا هو قلمي.. طلبت ورقة «نموذج» السكن وكأنني سوف أعبئها، ومددت يدي إليه بسرعة وقلت لو سمحت القلم.. تردد قليلاً ولكنه مده إليّ وما أن مسكت به حتى وضعته في جيبي ومزقت الورقة، وحدقت في وجهه بصرامة.. فنظر إليّ مبهوتاً.. فقلت أتعرفني؟! قال: لا.. قلت: أنا صاحب هذا القلم الذي سرقتموه في العام الماضي.. تركته مذهولاً وعدت مليئاً بالانتصار والظفر بقلمي الذي أكتب به لكم الآن.