كان لي صديق يدعى أحمد، طرى في رأسه السفر، من كثر ما كان يعانيه في قريته، وإليكم نص الحكاية: عبّا متاعه وحزم حقائبه. غدا صباح يوم سفره على أول حافلة تمر عبر قريته، فهذه آخر ليلة سيبيت فيها ولن يعود إليها إلا وقد عظم شأنه وتحسنت أحواله. هذا ما كان يقوله لأقرانه وأهل قريته. التهم عشاءه ثم صعد الدرج إلى السطح. تمدد فوق فراشه ووضع رأسه على الوسادة. علق بصره بالسماء وسرح في خياله. حدق ببصره متاعه حقائبه وأوراق شعره. إنه مسافر إلى مكان سيجعل منه شخصية محترمة له هيبته وقيمته التي ستجعله يعايش مجتمع المادة. هكذا كان يفكر وهذا ما كان يردده دائما مع نفسه. مهاجر إلى تلك الدولة إلى أي مكان في العالم. عاش أحمد كاتبا للشعر كرس حياته خادما للقلم يطوي أوراق الشعر كما يطوي الزمان أيامه وكالطائر يريد أن يحلق بلا قيود في فضاء يمتد فوق سهول نقشت بها أمطار الشتاء أخاديد شكلت سواقي كان يمد بصره نحوها في ربوة قريته وكان بين تلك الربوع الممتدة من قريته إلى الطريق الرئيسي. أكمل أيامه عبر شهور السنة صباحا ومساء ذهابا فإيابا يجعله يحس برزانته وقنوطه. أنه يجتر خيبة أمل أطاعه كما الكثير من غيره فهو محاصر بعادات وتقاليد العائلة التي في قريته. يحاول أن ينفلت منها ومن عقالها مهما كلفه ذلك من ثمن يريد أن يفك فيها عنه وعن حياته أن يدفنها في ماضيه إن تزوج من بنت تربت غير تربيته فهو يريدها شابة متفتحة تعشق الحياة ذات تربية حضرية متحررة. حواره بين أهل بيته أو قريته غالبا ما كان يدور حول هذا الأمر. إن زواجه من بنت متحررة وسفره معها إلى بلدان الخليج غدا الجميع يتحدثون عنه فهم الذين يعرفون طموحاته وأفكاره وما يجول بخاطره بعضهم كان يشجعه وغيرهم كانوا يحذرونه، وهو صديقي الذي لم يدرك حتى الآن مخاطر هذه المغامرة يعتقد أن أهل قريته عاجزون عما يستطيع هو أن يحققه إنهم جاهلون منهم من يرى فيه ذلك الفتى المتمرد على تقاليد قريته وتقاليد مجتمعه الذي عاش وترعرع في كنفه يريد ان يكون! صديقي من الأوائل الذين حققوا لأهل قريتهم شيئا يذكرونه به. هو متيقن أنه قادر على أن يفعل ذلك.. محمد عبده الصالحي