يبدو أن الباحثين والمؤرخين الأندلسيين وقفوا من شعر الموشحات الأندلسية الموقف نفسه الذي وقفه عباس محمود العقاد من شعر التفعيلة في بدايات هذا الشعر في منتصف القرن الماضي. فقد وقف العقاد موقفاً شديد السلبية من هذا الشعر لا يعترف أنه شعر أصلاً بل نثر لأنه يخالف أسلوب الشطرين أو النظام الخليلي المعروف. وعندما كان أميناً عاماً للجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة بمصر كان يحيل الدواوين الجديدة الواردة إليه والمكتوبة على أسلوب شعر التفعيلة، إلى «لجنة النثر» للعائدية، أي لأنها لا تعود لاختصاص لجنته، بل لاختصاصها هي. أما الباحثون والمؤرخون الأندلسيون القدماء فقد أخرجوا الموشحات من ديوان الشعر في الأندلس بسبب استخفافهم لها، أو لمنزلتها الشعرية، مقارنةً مع الشعر الآخر، أي الشعر التقليدي الرسمي المعروف. فها هو ابن بسّام يقول بملء فيه وهو يبيّن لماذا حرم الموشح حق الدخول إلى حرم المجموعات الأدبية الكبرى: «وأوزان هذه الموشحات خارجة عن غرض هذا الديوان، إذ أكثرها على غير أعاريض أشعار العرب» (كتاب الذخيرة/ القسم الأول/ المجلد الثاني ص3). وحيثما تجول في كتابي الفتح ابن خاقان (قلائد العقيان) و(مطمح الأنفس)، أو فهارس الأندلسيين وتراجمهم المفصلة، أو الكتب التاريخية عن ذلك العصر، فسوف نجد الأمر ذاته: غياب الموشح تماماً. من ذلك ما ذكره المؤرخ عبدالواحد المراكشي بوضوح عن موشحات ابن زهر في كتابه (المعجب في تلخيص أخبار المغرب. تحقيق دوزي/ ص63): «ولولا أن العامة لم تجر بإيراد الموشحات في الكتب المجلدة المخلدة (هكذا حرفياً) لأوردت له بعض ما بقي على خاطري من ذلك». ويبدو أن الأندلسيين القدماء نظروا إلى شعر الموشحات على أنه شعر غناء وقيان وقصور، وسوانح منفلتة من قيود وشروط الشعر المعروفة، فلم «يدخلوه الكتب المجلدة والمخلدة» على حد تعبيرهم، وأبقوه طليقاً حراً في المجالس العامة أو الشعبية، ولكن ما لهذا الشعر يجري تناقله من جيل إلى جيل، ويعرف في الانتشار والذيوع ما لم يعرفه الشعر الآخر، فتردده الألسنة ويلحن ويغنى ويرقص على أنغامه ثم يعود ويبعث في العصر الحديث، في مشرق الوطن العربي ومغربه، وحوله تُعقد الندوات والمؤتمرات، إلى حدّ أن البعض يرى فيه برءاً لسقم الغناء العربي المعاصر سواء من حيث ألحانه المعروفة، وكذلك من حيث رقة معانيه وجمال لغته؟ لقد كان منصور الرحباني أحد عُمُد المؤسسة الفنية اللبنانية المعروفة، يقول متفاخراً وهو يعدّد انجازات الرحابنة وما حققوه عبر مسيرتهم الفنية: «لقد أحيينا الموشحات الأندلسية» التي كان يرى أنها الغائب الأكبر، ولكن الواجب الوجود في حركة إحياء وتجديد الغناء العربي، وكان منصور يشيد بالإرث العظيم، الشعري كما الفني، الذي تركه الأندلسيون في إطار الموشحات التي كانت برأيه خلاصة شعوب وحضارات وثقافات ولغات تفاعلت في اسبانيا الإسلامية، والواقع أنه كان للمشارقة كما للمغاربة، وكذلك للقوط أهل اسبانيا الأصليين، يد في هذا الموشح الذي مرّ في كل مروياتهم الفنية والشعبية ونهل منها أو أضاف إليها، إنه عربي طبعاً، ولكن له ملامح غير عربية أيضاً، يعرف ذلك حق المعرفة كل من عاد إلى تاريخ الموشحات الأندلسية وما كتبه العلماء والباحثون بصددها. على أن هناك أمراً يكاد إجماع هؤلاء العلماء والباحثين المعاصرين ينعقد عليه، وهو نضارة المعنى والروح في نص هذا الموشح الأندلسي القديم، وضرورة قراءته اليوم لاستجلاء وإعادة رسم المشهد الاجتماعي أو السوسيولوجي لزمان الوصل في الأندلس، فإذا كنا كثيراً ما نتغنى بانجازات الأندلس وبخاصة على صعيد الحضارة ورغد العيش الذي أمنته تلك البيئة المنعمة التي مثلت يومها أحد أرقى البؤر الناهضة في مجتمع القرون الوسطى، فإن من الممكن التماس كل ذلك في نصوص الموشحات الأندلسية التي تقدّم للباحث اليوم كنزاً من المعلومات التي يمكن استخلاصها عبر استنطاق النصوص. ويمكن في هذا المجال أن نورد نماذج من مقاطع، أو بعض ما يمكن أن يضيء على نصوص هذه الموشحات ليستيقظ عصر، وتنهض بيئة ومواصفات عن ذلك الزمن الأندلسي الذي لم يكن كمثله زمن. ونقتطف هذه النماذج من كتاب المستعرب صمويل شيرن عن الموشح الأندلسي. ومن ذلك: بأبي من رابها نظري/ فبدا في وجهها الخجل/ أمهاة تلك أم بشر؟ أيها الساقي إليك المشتكى/ قد دعوناك وإن لم تسمعِ ما للموّله من سكره لا يفيق؟ هل تذكرين أيامنا في الخليج وليالينا؟ هل درى ظي الحمى.. نسيم الروض فاح يا ليلة الوصل ان كنت من أصل الهوى أدر لنا أكواب ليل الهوى يقظان تجاوز الحدّا/ قلبي اشتياقاً وكلّف السهدا/ من لو أطاقا قلتُ وقد مدّا/ ليلي رواقا ليل طويل/ ولا مضى يا قلب بعض الناس/ أما تلين؟ ايها الباكي على الطلل ومدير الراح بالأمل أنا من عينيك في شغل فدع الدمع السنوح سدى وضرام الشوق تتقد! على أن كل هذه النماذج لا تعبّر تمام التعبير عن كنوز من الموشح يمكن أن يجدها المرء في مصادر الأدب الأندلسي كما في مصادر أخرى. هذا مع الإشارة إلى أن بعض الشعراء العرب في القرن العشرين، ومنهم محمد سيد الجوبي في العراق، كتبوا قصائد كثيرة حسب أسلوب الموشح، كما أن الموشح عرف طريقه إلى مجالس الطرب وعرف ازدهاراً واسعاً في المغرب، وفي مدينة حلب السورية. ولكن الاهتمام به لم يتحول إلى ظاهرة لا في الشعر ولا في الغناء، رغم جدارته بذلك، فظل كالنسيب الفقير في أسرة الشعر والفن.