السؤال الذي تطرحه علينا تجربة كتجربة الشاعرة منال العويبيل: هل يصحّ أن تُعدّ تلك النصوص بكثافتها الموسيقيّة من قصيدة النثر، ليس إلاّ لأنها لم تلتزم بانتظام القوالب المألوفة في الشِّعر الموزون المقفّى، أو في شِعر التفعيلة؟ والإجابة العلمية: كلاّ، ليس ذاك بشِعر نثر، بل هو شِعرٌ منغّم، يبتكر تشكيلاته الوزنيّة والتقفويّة، على طريق الأندلسيّين حين ابتكروا بحور الموشّحات اللا نهائيّة، وفق ضروب من الغناء، أعيا ضبطها (ابن سناء المُلْك المصري، -608ه= 1212م)، في كتابه «دار الطِّراز»، فاعتذر بأن الغناء بَحْرٌ حُرٌّ لا ساحل له. وكذلك هي قصائد منال العويبيل؛ قصائد بذاكرة نغميّة، لكنها صفر من ذاكرة القوالب التراثيّة، تستوحي أشكالها متكئةً على محض ذوقٍ فِطْريّ، يصطنع موسيقاه عبر سَوَاقيه الخاصّة. ينبغي التفريق، إذن، بين الأخطاء الواضحة في التفعيلة أو العروض، وبين البناء المقصود لذاته بكيفية تخرج عن القوانين الموسيقية للشِّعر. فحينما تكون القصيدة قصيدة تفعيلة أو قصيدة تناظريّة، لا سبيل إلى تخريج الخروج على التفعيلة أو العروض، إلاّ بالقول: إن هذا خطأ وقع فيه الشاعر! غير أن ما تلحظه هذه الدراسة أن بعض النصوص الشعريّة (الأحدث) ليست بقصائد تفعيلة، ولا بقصائد نثر خالصة، ولكنه يمتزج فيها البناءان الإيقاعيّ والنثريّ، وهذا ما أسميه بشِعر النَّثْرِيْلَة، فهو ليس بشِعر نثر ولا تفعيلة. إلاّ أنه لا يكفي لتُسمّي القصيدة قصيدة نَثْرِيْلَة أن تكون فيها بعض التفعيلات، بل لا بد أن تظهر بكثافة. وهنا لن أخطّئ صاحبها إيقاعيًّا أو أصوّبه نثريًّا، إلاّ لو زعم أن نصّه قصيدة تفعيلة، فأقول له: قوّم تفعيلتك! أمّا وهو يقول إنها قصيدة نثر، فسأقول له: مهلًا، هذه ليست قصيدة نثر، هذه قصيدة نَثْرِيْلَة؛ لأنها غير مجرّدة من التفعيلة. وهذا هو دور النقد، بصفته علمًا، أن يستقرئ الظواهر، ويرصد الملامح الفارقة، ويضع التسميات الفارزة لكلّ نوع. أما المتذوّق العامّ، فليس مُعَنًّى بذلك كلّه ولا مَعْنِيًّا. ولمزيد من الإيضاح- وبعد أن تبيّنتْ كثافة الإيقاع العروضيّ في تلك النماذج من شِعر النَّثْرِيْلَة، التي عرضناها في الحلقات الماضية- لنقسْها إلى نصوص من قصيدة النثر، التي تستحقّ هذه التسمية. ومنها هذا النص للسوريّة فرات إسبر، على سبيل المثال، بعنوان «عندما ينام وحش الكآبة» (1): في الليل، عندما ينام وحش الكآبة ترقُّ قشرة الأرض من البكاء. في الصدر، تعزفُ ألحانها الرطوبة. بلا أصابع، الليل يصفّق للظلام. في صدروهنّ لا ينام الحليب، النساء يتركن المطر يسرحُ. جفافُ الأرض، يأخذ ما تتركه لحظة الصدق من مطر. فهذا الضرب من النصوص هو ما يصحّ أن يسمّى قصيدة نثر، حيث الاتّكاء على جماليّات الانزياح اللغويّ وحركيّة الصورة والمعنى فقط، دون نبض الإيقاع في مستواه الموسيقيّ التفعيليّ. صحيح أنها قد تنثال دفقةٌ إيقاعيّةٌ هنا أو هناك، كما في المقطع التالي من نصٍّ آخر طويل نسبيًّا لفرات إسبر، بعنوان «بأرض لا مقام بها» (2): أحبُّ المطر الذي يلامس ظهرك. ظلّك يعبر في الماء. أتخيّلُ نفسي سمكة. وأحلم أني عبرت المحيط إليك. أساي نهر يطوف وعلى الجانبين أيام شقاء لا عطر لها. فالسطر «وأحلم أني عبرت المحيط إليك» متقارب، أي على تفعيلة «فعولن»، بيد أن هذا لا يكفي في نصٍّ ليُدعَى: قصيدة نَثْرِيْلَة؛ من حيث إن هذا المستوى الإيقاعيّ البسيط وارد كثيرًا حتى في النثر، الخالص النثريّة. لهذا تظلّ تجربة كهذه قصيدةَ نثر تمامًا. ولا غرابة أن تبقى الموسيقى حاضرة في شِعر الشاعر العربي، أو أن يبقى الاحتفاء لديه بالتفعيلة العروضيّة؛ فهو ابن بيئة شفاهيّة غنائيّة، ما زالت أصداء تراثها الشفاهيّ الغنائيّ حيّة في موروثه الشعبيّ، ومحيطه الاجتماعيّ العامّ. كما أن الذاكرة الثقافيّة والتعليميّة مكتنزة بالغنائيّة، والشِّعر العربيّ بمجمله مرتبط بالغناء في الوجدان العربيّ، فما أن يواجِهَ الذهنُ العربيّ القصيدة- أيًّا كان شكلها- حتى يَلِجَ جوًّا من النَّغَم والتنغيم المتخيّل. لأجل هذا فإن المُنْشِئ - حتى ووعيه صفرٌ من عِلم العَروض، معتمدًا على حِسّه الفِطريّ- ينقاد حين ينوي قول شِعر إلى صُنع كلامٍ ذي طابعٍ تنغيميّ، دون وعيٍ عِلميّ؛ لأن ذاكرته الشِّعريّة الجمعيّة، ولأن حضور الشِّعر في مخيّلته، مقترنان بلغةٍ موسيقيّة ما، فإذا هو يراود الهرب عن فخّ التفعيلة إلى النثر.. ليقع في التفعيلة. وعلى الرغم من أن هذه الدراسة لم تخطُ إلى إجراء استقراءٍ شامل لفوارق هذه الظاهرة الفنيّة بين أقطار الوطن العربيّ، إنْ وُجدتْ، فإن النماذج التي وقفتْ عليها لمبدعين من السعودية، والأردن، ومصر، وسوريا، والعراق، والمغرب، تنبئ عن أثر البيئة، إلى جانب عوامل أخرى. ذلك أن البيئات الثقافيّة العربيّة ما انفكّت تعيش أجواء الشِّعر العربيّ الأُولى، بكامل زخمها الإيقاعيّ. ومن ثَمَّ لا غرابة أن تظهر موسيقى الشِّعر حتى في ما يظنّه منشئوه قصائد خالصةً لوجه النثر. كيف لا، والنثر نفسه في هذه البيئات لا يخلو- بسبب تلك المؤثرات المشار إليها- من ملامح شِعريّة نغميّة، ويظلّ الإنسان ابن بيئته! على أن الفوارق بين وعيٍ وعيٍ لدى الذوات الشاعرة المختلفة يرسم أمامنا مسارات بين قصيدة النثر وقصيدة النَّثْرِيْلَة: 1. كاتب يكتب قصيدة النثر عن وعيٍ بالمستويات الفنيّة، والحدّ الفاصل بين التفعيليّ والنثريّ، وهو مستمسك بالخلاص من البنية الإيقاعيّة الشِّعريّة بحذافيرها، وهذا ما يفعله مثلًا أُنسي الحاج، كما رأينا من قبل، أو تفعله فرات إسبر. 2. كاتب يكتب قصيدة نثرٍ على سجيّته، بلا وعيٍ بتلك المستويات، أو بوعيٍ مرتبك بعض الشيء، فيقع بين حدّي النثر والتفعيلة، وقد يكون الناتج: قصيدة نَثْرِيْلَة. ويظهر هذا غالبًا في نصوص الجيل الناشئ من الشعراء. 3. كاتب يراوح في كتابته بين قصيدة النثر والنَّثْرِيْلَة؛ لأن ثقافته التأسيسيّة الغنائيّة ما تنفكّ تنضح نصوصه بإيقاعاتها التفعيليّة المنثورة. ويمكن أن نرى ملامح ذلك مثلًا في تجربةٍ كتجربة أديب كمال الدين، من العراق، كما في مجموعته «أقول الحرف وأعني أصابعي» (3). 4. كاتب يكتب القصيدة عن وعيٍ نقديّ بالمستويات الفنيّة، والحدّ الفاصل بين التفعيليّ والنثريّ، وقد يعاشر الأشكال الشعريّة الإيقاعيّة جميعها- التناظريّة، والتفعيليّة، والنَّثْرِيْلِيَّة، والنثريّة- بلا تحفّظ، طليقًا، غير مرتهنٍ أيديولوجيًّا، باحثًا عن الاختلاف الفنّي، بلا تقولب. وقد أشرنا إلى نموذج ذلك في تجربة علاء عبدالهادي، من مصر، ويمكن أن نضيف هنا نموذجًا آخر من تجربة الشاعر المغربيّ أحمد بلحاج آية وارهام (4). فأيّ هذه الأصناف من الوعي أخصب في المحصلة الفنّيّة، وأيّها أكثر وعدًا بالآتي؟ لا شكّ أن منبثق الإبداع الفنّي الحقيقيّ يكمن في حالةٍ من اللاوعي، واللا عِلْم الفقهيّ. وهو ما أنتج في الأساس بحور الشِّعر العربيّ، عبر التجربة الإنسانيّة وإملاءات البيئة. ولو تخلّصت الذاكرة من قيود الماضي، وانعتقتْ من مكبّلات التمذهب والتصنّع الراهن، لألهمت السَّجايا أصحابها بحورًا جديدة، بحيث يكون الشِّعر مكتنزًا بالموسيقَى، ولكن في غير نظامٍ تقليديّ. إلاّ أنه حينما يَرْدُف ذلك حِسٌّ نقديّ، لا يستسلم لعامل الطبع وَحْدَه، تتمخّض الحالُ عن تأسيسٍ فنّيّ معرفيّ لتيارٍ جديد، وذلك ما نستشرفه في بعض تجارب ما ندعوه: (قصيدة النَّثْرِيْلَة). وها هي تي قصيدة النَّثْرِيْلَة، اتجاهًا فنّيًّا غير معلن، نسمّيها هاهنا كي نمنحها شهادة الميلاد. وهي اتجاهٌ لو تكاثف وأصبح له رصيده الواسع من التجارب والاستجابات، لأمكن التنبّؤ بأن ينتهي إلى فتح بدائل إيقاعيّة، عن عَروض الخليل وشِعر التفعيلة وقصيدة النثر جميعًا، لا بنبذ الموسيقى الشِّعريّة العربيّة جملة وتفصيلًا، ولكن بالدَّوَران في فَلَكها، بروح جديدة تستلهم البكارة. [email protected] http://khayma.com/faify (*) أستاذ النقد الحديث - جامعة الملك سعود (1) (2009)، زهرة الجبال العارية، (دمشق: بدايات)، 14. (2) م.ن، 66. (3) (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2011). ونشير في تلك المجموعة إلى جملة من النصوص التي تُعدّ قصائد نثْرِيْليّة، لما فيها من إيقاع تفعيليّ، كنصّ «ثمة خطأ»: ص7، «العودة من البئر»: ص13، «إنّي أنا الحلاّج»: ص17. (4) طالع مدوَّنته على الرابط: http://awabbelhaj.jeeran.com