مما لاشك فيه ان كتاب الباحث الدكتور عبد النبي اصطيف الذي صدر مؤخرا ضمن سلسلة (الكتاب الشهري) التي تصدر بالتعاون بين الهيئة العامة السورية للكتاب وصحيفة البعث يقدم اضاءات مهمة اتجاه التمازج بين التراث العربي الإنساني والتراث العالمي ويطرح الكثير من الأسئلة والقضايا التي تشغل الباحث والمهتم العربي، لقد جاء الكتاب كرحلة تراثية ووقفة تاريخية تحاكي ايمائيات تفاعل الأدب الأندلسي بموشحاته وأزجاله مع الشعر الغنائي الغربي وفي مقدمة الكتاب يتحدث د. عبد النبي اصطيف عن دولة الأدب وعن مختلف شؤونها الداخلية التي يعنى بها النقد الأدبي وشؤونها الخارجية التي ينصرف الدرس المقارن إلى تدبرها من خلال دراسة تفاعل نصوص هذا الأدب مع نصوص الأدب الأخرى بعدها يمضي إلى التوقف عند فسح تفاعل الأدب العربي مع آداب أوروبا (الأندلس، وصقلية، والمشرق العربي زمن حروب الفرنجة وجناح أوروبا الشرقية زمن التوسع العثماني)، ليتناول بعد ذلك الحضور الأندلسي في أناشيد أول شعراء التروبادور (غيوم التاسع) الذي عاش حياة مفعمة بالثقافة العربية بمعناها الواسع يفصح عن انغماسه فيها ما تركه لنا من بدايات شعرية التروبادور. وبعد هذه الفصول البرقية الثلاثة يأتي الفصل الرابع الذي خصص للحديث عن الشاعر جفري روديل عميد ما يمكن دعوته بالغزل العفيف في شعر "التروبادور" ليليه الفصل الخامس الذي خصص للحديث عن نقيضه عميد الغزل العمري ماركابرو، وليكون الفصلان مرآة تعكس وجهي الحضور العربي وتقاليد شعر الغزل العربي في ارق شعر غزل عرفته أوروبا في مطلع عصر النهضة . أما الفصل السادس فتوقف عند إسهام المرأة البروفنسية في نشر تقاليد التروبادور المستلهمة من تقاليد الشعر العربي الأندلسي في مختلف أنحاء أوروبا، وفي الفصل السابع يتناول الباحث الملامح العربية الإسلامية في شعر دانتي وصولا إلى الحضور الأندلسي في أناشيد الصانع الأمهر . "ما وراء جبال البرنية" الشعر العربي في أوروبا عندما أعطى العرب أدبهم وشعرهم لأوروبا النهضة أعطوها فيما بدا شعرا عربيا خالصا لم يسهم في تطوره في مراحله الأخيرة إلى قوم استظلوا بالحضارة العربية وتأثروا بها وان الشعر العربي لم ينتقل عن طريق الترجمة وإنما انتقل من خلال عملية معقدة، فقد كان لابد من انصهار سكان جنوب غرب فرنساوجنوباسبانيا وصقلية في بوتقة الحضارة العربية حتى يستسيغوا النماذج العربية في فن الأدب، وقد اخذ الدارسون المدققون يستخرجون نصوص هذه النماذج حديثاً ليدلوا بالبرهان العملي على عملية التأثير والعطاء العربيين لشعر النهضة وآدابها. لقد فتح العرب الأندلس سنة اثنتين وتسعين هجرية ومكثوا فيها حتى سنة سبع وثمانمائة هجرية وبرغم ان دولة العرب والمسلمين قد تفاوتت قوة وضعفا وعددا واتساعا وضيقا إلا أن "الأندلس" مثلت وجوداً عربيا هاماً في هذه القطعة من أوروبا لم ينته بسقوط غرناطة آخر معاقل الإسلام في شبه الجزيرة الايبرية في سنة اثنين وتسعين وألف ميلادية، بل استمر بعد ذلك ممثلاً بالموريسكيين أي المسلمين الذين أرغموا على التنصر وهم الذين بقوا في اسبانية حتى أوائل القرن السابع عشر الميلادي ثم طرد عدد كبير منهم إلى الشمال الإفريقي ..ولهذا فإن الوجود العربي المادي هناك امتد فترة جاوزت تسعة قرون وكان كافياً ليترك العرب في الشعبين الاسباني والبرتغالي من رواسب حضارتهم ما لا يزال سمة واضحة لهما حتى اليوم. أما صقلية والشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الايطالية فكانت الميدان الثاني للقاء العرب بغيرهم من الامم الأوربية وجاءها العرب من تونس وبقوا فيها أكثر من 270عاما حيث تكررت فيها ظاهرة التأثير المتبادل بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الأوروبية على نحو ما رأيناه في الأندلس ولكن بمستوى اصغر . أما الميدان الثالث فكان جزءاً من الوطن العربي نفسه حيث دارت الحروب الصليبية التي قاربت قرنين حيث كانت فرصة ممتازة للتعارف بين الاثنين استفاد الأوروبيون من مختلف ميادين الحضارة الإسلامية واخذوا الكثير من عناصر حضارتها مثل الزراعة والعمارة والصناعة والتجارة والحياة الاجتماعية والثقافية والأدب، وكان غيوم التاسع أول شعراء أوروبا الغنائيين قد أمضى ما يقارب سنة ونصف في بلاد الشرق في مغامراته الصليبية المخفقة لكنه على اتصال وثيق بالحضارة العربية الإسلامية في الأندلس... أما الميدان الرابع من ميادين الاحتكاك الحضاري فهو ميدان متأخر وغير مباشر تمثل بامتداد الدولة العثمانية منذ منتصف القرن الخامس عشر في شرق اوروبا وما حمله هذا الامتداد إلى الأقطار الشرقية من تلك القارة من مظاهر حضارية طابعها عربي إسلامي في الأساس، وقد أتاحت هذه الميادين الأربعة التي امتدت قروناً فرصة نادرة للأدب الأوروبي للتعرف على أجناس ادبية جديدة مثل (المقامات) و(الليالي العربية) وموضوعات جديدة في الشعر الغنائي بحساسية نفسية وفنية جديدة وكان هذا له الفضل في بعث أفضل ما أنتجته اوروبا من الشعر في تلك العصور. "غيوم التاسع" والحضور الاندلسي في قصائده كان شعراء التروبادورالذين ينتمون إلى إقليم البروفانس في جنوبفرنسا صلة الوصل بين الشعر الغنائي الاوروبي والشعر العربي الأندلسي ولا سيما موشحاته وأزجاله. وكان غيوم التاسع الابن الوحيد لابيه اول من عرف من شعراء التروبادور الذين تأكدت صلتهم بالموشحات الأندلسية الذي تعد حياته مفتاح البحث إلى فسحة الصلة العربية الأوربية في ميدان الشعر الغنائي، وقد اتصلت حياة اول شعراء التروبادور بالحضارة الاسلامية اتصالاً مباشراً في جنوبيفرنسا وفي اسبانيا وفي المشرق العربي وكان صوتاً معبراً عن واقع مجتمعه في عصره والمنفتح على الحضارة العربية الاسلامية في الاندلس، وقد بقي من شعر غيوم احدى عشرة قصيدة تعكس جميعها تأثره بالموشحات الأندلسية في العناصر الأساسية المكونة لشعره وهي اللغة والشكل والمضمون وأسلوب التعبيرلامجال لذكرها هنا . جفري روديل عميد الغزل العفيف جفري روديل ايضا من شعراء التروبادور وكان عميد منشدي الغزل الروحي العفيف المعبر عن العشق المثالي للمرأة، ، وكانت قصائده الغنائية تعبر عن تجربة حبه الفريدة في قومه وخلفت تجربته اثراً بالغاً في الأدب الرومنتي في فرنسا وايطاليا وانكلترا وغيرها وأصبح منهجه في الحب منارة لكل الشعراء، وكانت اغنيته الخامسة، أغنية الحب البعيد، كفيلة بتوضيح بعض قسمات هذا الحب الفريد والغريب في آن معاً على الحساسية الأوروبية : عندما تطول الأيام في شهر أيار تعجبني أغاني العصافير المغردة من بعيد وحينما انتهي من سماعها أتذكر حباً بعيداً فأمشي مطرق الرأس في تأمل غير مهتم بالغناء ولا بأزهار البيوت فهي لا تفضل في نظري ثلوج الشتاء وعكست قصائده نظام القوافي المقبوس جملة عن الموشحات العربية الأندلسية وفي المضمون مذهب الغزل العذري والبعد في أساليب التعبير عن التعقيد في اللفظ والتركيب والتكرار المستساغ ... ماركابرو عميد الغزل العمري كان ماركابرو من أنجب تلاميذ غيوم التاسع وسمي بعميد الغزل العمري (نسبة إلى عمر بن أبي ربيعة) ، وقد عاش بين فرنساواسبانيا في قصر الأمير غيوم العاشر وترك أربعة وأربعين قصيدة مختلفة الأشكال متنوعة الأغراض على الرغم من غلبة الهجاء عليها، وعلى الرغم من ممارسته حياة لاهية عابثة فقد خصص قسماً من نتاجه لهجاء اللهو والفجور، وهو بذلك يعكس جوانب مختلفة من التأثير العربي الإسلامي في شعره، هذا التأثير الذي تناول الشكل والأسلوب والمضمون في آن معاً، ويتجسد التأثير العربي الإسلامي في شعره على: 1- شكل القصيدة وخاصة ترتيب الأغصان والأقفال وتوزيع القوافي. 2- مضمون القصيدة. 3- أسلوب التعبير الغامض المغلق الذي يحاكي فيه الوشاح الأندلسي الأبيض. دانتي اليغيري..إسهام المرأة في نشر روح الرومانس كانت الرياح العربية الإسلامية تهب على شبه الجزيرة الايطالية من الشمال، والجنوب معاً، من التأثير التروبادوري أولا، ومن صقلية من النفوذ النورماندي، وثمة ما يشبه الإجماع بين دارسي دانتي على انه استمد أصول فنه من مصادر عديدة، كان من أبرزها الشعر التروبادوري، حيث ورث تقليداً للشعر الغنائي ذا لغة حب متطورة ساعدته على أن يفسر تجربته وأن يعبر عنها، وكانت صلة دانتي بشعراء التروبادور وثيقة جداً إذ كان يعرف لغتهم معرفة ممتازة ساعدته على تذوق شعرهم، ويعتبر دانتي الشاعر الأكبر في ايطاليا وقد أغنى مواسم الانفتاح الأدبي الأوروبي على التراث العربي الإسلامي في عهد النهضة وخاصة في (الكوميديا الإلهية) حيث يقول (بريفو): إن المرأة البروفنسية المثقفة أصبحت مثل المرأة العربية بعامة، تلهم مشاعر الشعراء، وتثير بطولة الفرسان، وتأسر العظماء بأدبها وجمالها، تقول الشعر، وتحتكم إليها الشعراء وتسير بذكرها الركبان، فيتمناها زوجة أو حبيبة كل من أحس في نفسه نخوة الرجولة . وقد أسهمت المرأة البروفنسية إسهاما معتبراً في نشر تقاليد التروبادور المستلهمة من الشعر العربي الأندلسي في أنحاء اوروبا من أمثال الأميرة ألينور حفيدة غيوم التاسع التو لوزي والأميرة كونستانس بنت ملك آراغون الفونسو الثاني . أما الأميرة الينور فكانت وراء قدوم العديد من شعراء التروبادور البروفنسيين إلى انكلترا وبالتالي وراء التأثير الاسلامي في الشعر الغنائي الانكليزي في العصور الوسطى، وفتحت قصرها ملتقى للأدباء والشعراء والفنانين القادمين من الجنوب والذين يحملون معهم عبق البروفانس، أما الأميرة كونستانس فقد كانت وراء انتشار فن التروبادور في اوروبا الشرقية... ولم يقتصر تأثير الشعر العربي الأندلسي على شعراء التروبادور بل شمل الشعر الأوروبي الحديث وقد تم ذلك على يد ازرا باوند الشاعر الصوري المعروف واستاذ ت.اس. إليوت. حيث ساهم ازرا باوند في تسريب عناصر من الثقافة العربية الإسلامية إلى شعره مؤثرا بذلك في الشعر العربي الحديث ليكمل دورة التأثير التي بدأت بشعر الموشحات والأزجال في الأندلس، وانتقلت إلى شعراء التروبادور في مختلف انحاء القارة الأوروبية مثل دانتي وسوناتاته لتصل إلى شيخ شعراء العصر الحديث وحوارييه في الوطن العربي وفي خارجه. وقد مارس ازرا باوند الذي توسط الشعر البرفنسي في تسريب عناصر من الثقافة العربية الإسلامية إلى شعره تأثيراً معتبراً في الشعر العربي الحديث فأكمل بذلك دورة التأثير التي بدأت بشعر الموشحات والأزجال في الاندلس، ومضت إلى شعراء التروبادور في مختلف انحاء القارة الاوروبية مارة بدانتي وسوناتاته لتصل إلى شيخ شعراء العصر الحديث وحوارييه في الوطن العربي وفي خارجه. وتعود صلة الشعراء العرب المحدثين بوريث العبق البروفنسالي إلى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، حيث شارك فيها خمسة من كبار الشعراء العرب المحدثين ومجموعة من الباحثين والمهتمين بالآداب الاوروبية والأمريكية، وأما الشعراء فهم: بدر شاكر السياب، وجبرا إبراهيم جبرا، ويوسف الخال، وسلمى الخضراء الجيوسي، وتوفيق صايغ، وأما الباحثون فهم: سهيل بشروني، ومحمد شاهين، وكميل داغر، وخلدون الشمعة وغيرهم. وهكذا تمت دورة الشعر الأندلسي على مدى هذه القرون العشرة لتؤكد أن التواصل الحضاري ولاسيما في مجال الأدب والفن سنة من سنن الوجود الإنساني .