" لا وجود لوادي عبقر صدقوني فقد كنت هناك " السرد قران مقدس وعرى لا انفصام لها بين ذوات السارد الكاتبة والفردية والجمعية في فضاء أوسع من الزمان والمكان وتستوعبه أبجدية من ثمانية وعشرين حرفاً !! إن أبحث فيه سأصل لنتائج مختلفة باختلاف أدواتي كل مرة ، ذلك أن النص السردي صرح ممرد يحسبه الخائض لجة حتى إذا دخله كشف عن ساقي جهل جميل؛ فيرتد له طرفه مستبشراً يقول يا بشراي هذا فتح مبين ، والحق أنه لم ينكشف له من الستور إلا عورة روحه ، ولعل ذلك ما يفسر النشوة الحارقة التي ينتجها التلقي . المشكلة في شهادتي ليست أن من يتلقاها يأخذها قولة شاهد عيان فاعل فهذه تهمة لن تقنعني وشوشات رولان بارت المعسولة بأن أبرأ منها لأكون " شاهداً ماشفش حاجة " ما أخشاه أن يتلقى متلقٍ قولي مسبغاً عليه ثوب اليقين فيعمى عن انعكاس ما سردت في وجدانه ، وهو خوف مبرر فأنا كقارئة آخذ ما يقوله السارد عن سرده بتشكك أقل مما آخذ به قولة أي ناقد آخر ؛ هو الأديب الذي سار في مفاوز مفضية لعبقر وهو يهدين- على الأقل- سواء السبيل الذي سار فيه ، والحقيقة أن كل ما يتذكره السارد من قفزته السحرية في فضاء ال"هناك" تفاصيل غرائبية كلقطات من حلم ليلة مرهقة . وبالتالي فإن حديث الكاتب عن الكتابة حديث شاهد عيان وفعل في عوالم مربكة ، وكل المفاتح التي سيقدمها ممكنة ، ومع هذا فإن رصف الطريق بعلامات دالة غير ممكن ، لأن الدرب رمل تمسح الريح وجهه كل حين فتخفي الأثر فور انطباعه . هل أعني أننا بصدد مسارات شديدة التفرد ؟ هذه خدعة أخرى لا تصدقوها ، فالنص المسرود في النهاية ليس أرضاً مقدسة وببقاعه المباركة مشاكل كبيرة للناظرين ؛ فالذات المتفردة تعارك المألوف لتثبت تفردها مستجدية مسالك السابقين ، وهي في توقيعها عن هذا التفرد تصرم لغة إلزامية بقوالب شبه إلزامية وموضوعات مطروحة على قارعة الطريق رفعها ووضعها السابقون الأولون مرة بعد مرة فأين من هذا كله التفرد ؟! ثم ان الذات التي تُسرد مراوغة واسعة فهي ذات السارد الفردية اليابسة كالمسطور في سجله المدني ، وهي تشبهه قليلاً كصورته في جواز السفر ، وهي أمشاج من أسلافه المحفورين في لون بشرته وتقاسيم وجهه ولهجته ، هي دعسة قدمه في أرض أديمها أجساد كثيرين منهم أنت ومنهم أنا. الكتابة عن الكتابة ليست أسهل منها وإن أوهمت حين يرتكبها الكاتب بصدق أكبر ، ومستغلة حالة التشكك التي أوقعتك فيها سأورد ما أذكره من لقطات حلم ليلة مرهقة مقسمة أن ما أشهد به هو ما يظهر لجوارحي هنا والآن . وأنا إذ أقدم شهادة حول ما أسرد ويسردني ، ستكون الشهادة في أحسن أحوالها يميناً غموساً ، أجزم بذلك لأن ذات الشهادة لو طلبت مني قبل عامين أو بعد شهرين لن تكون هي . وثمة مفارقة جميلة أخرى هنا هي أنني كائن حي أنمو وأتطور ، وسردي كائن حي هو الآخر ينمو ويتطور ، وإن كان تطوره التاريخي لو رصدناه تطوراً من شيخوخةِ ظاهرٍ وبدائيةِ إمكانات إلى شباب ، تطور أقرب لنمو بنجامين بتن بطل الفيلم اللذيذ the curious case of Benjamin Button والنص السردي له زمنه الخاص والأوسع من الذي قيدناه بالنجوم والظلال والرمل والأرقام ، هو زمن الانكتاب المتجدد ساعة عناق المتلقي له ، سره أزلي وسطوته على مريده مدوخة ، إذ تعكس أوشام النص هوية المتلقي كمرايا لا متناهية تُنتج عن النص الواحد نصوصاً تتعدد بتعدد مرات التلقي . ولعل هذه الحقيقة هي ما جعلتني أكتب ابتداء ؛ أعني قبض السرد على هوية المتلقي بجرم التحقق حيث أمتلك كساردة ناصية الخلق . **************** تلبسني السرد فكتبت وانكتبت ، ولا أعرف لهذا التلبس زمناً لكني أراني بين صغار خمسة عشر نتحلق حول السارد الأول الذي عرفته ( أبي ) بعيونٍ طفلةٍ : مفتوحةٍ ومفتونة ، في عصبة تكابد إنصاتاً يخطفها قسراً من ملهى الحارة كنت أكتوي بما يحرق جوف أبي خشية على بقية مما ترك أولوه من أساطير بأن تنسى ، فأعاهده سراً أن سأحفظ ، وأن سأقيد ما أحفظ عنه فلا يبلى . ربما يكون هذا ما حصل ، وربما أبهرتني رؤيا للأربعة عشر كوكباً حولي يوماً يتحلقون، وأنا أعيد خلق عوالم لسان فتان . على طرف لسان أبي يظهر أبو نواس بوجه آخر غير الماجن الذي درست شعره فيما بعد ، أبو نواس عنده ذكي حصيف يوظف دهاءه لصالح جهلة بغداد من البسطاء وحتى الوزراء حين لا يحميهم قانون من نزوات والٍ لا يسميه، وبخطط الرجلين ( أبي وصديقه النواسي) تنكسر هيبة الوالي حين تبارزها أسلحة من كلام وفكر . في شارع سرد أبي يقابل أبو نواس أحياناً جحا الذي لا يعود مضحكاً فيه غير نسيانه لدروس أستاذه أبي نواس ، والعواقب التي تنتج عن هذا المحو المعلوماتي حسرات يتجرعها جحا في فضاء يسميه أبي العراق (بالكاف ) ويفسر طريقة نطقه فيروي أثراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد أن روح المكان مختومة بالصراع . من عراق العراق يطير لسان أبي قبل الطيارات مرة للبحرين يستخرج بدل المحار أشعار أجداد عبروا جاسوا خلال الديار ، ويعود للبلدة فيحكي من حكاياتهم جوانب تتجدد وتتكيف مع واقعنا ، فيما تغني أمي إن غادر المكان أشجان نساء موغلات في الحلم . كبرت وقلت نصي الخاص ، ولأني أعرف أن البلدة ترفض من الحكي ما ليس بمعروض أو معلقة مديح أو فخر أخفيت اسمي عن أعينها ، ولكنها اشتمت الخبر ، وأوجعتني نمائم مالحة تنثرها على روحي ، ولأني ابنة العراك ظللت أكوي كبدها بفلتات لساني قصة بعد قصة ومقالة بعد أخرى واصمة إياها ب"القرية الجاهل أهلها " وأهلها بين النمائم يقفون على شفا الحرف ليكذّبوا أعذب قولي بعد أن يخيطوا بألسنة حداد قميص زور على جسدي . نجديون من غير سوء ، ذنبهم أن قد تربوا على أن اسم المرأة وصوتها عورة ، لكني عقاباً لهم كناقف حنظل أقشر أردية هويتي ، اسماً ورسماً . بدأت أول الحرف باسم أم مبارك ، لأقع بعد فترة قصيرة على كلمة أظنها لجمانة حداد تسخر من ثقافتنا علمت النساء ألا تعريف لهن إلا نسبة لرجل ( بنت فلان أخت فلان أم فلان ) فكتبتني أمل الدوسري . ويغضب مني المحيط ، وتنقل لي حمالة الحكي أن قريباً لي سأله أحدهم عن أمل الدوسري أهي من بلدتك ؟ ويجحد ، فيكون توقيعي من ساعتها أمل الفاران ، ابنة العراك وكأبي نواس أناوش السلطة باللغة . **************** قالت فرجينيا وولف مرة " على الكاتبات أن يقتلن المثال الجمالي للمرأة كما استطعن قتله في كتاباتهن " السرد فعل عنف وقسر ، وأنا أمارس هذا العنف كل كتابة ، أنحر صورة المرأة النموذج التي ترفعها ثقافة مجتمعي الذكورية نصاً بعد آخر في "حريم ، يوم هناك ، ماسنجر وتجليات غنمة " بنهايات حزينة ، أو بتغييب أصواتهن كما في "رمل " أو بمكافأة صبرهن وطواعيتهن حسرات كما ختمت "كائنات من طرب " مقعدة نورة بنت شايع المرأة النموذج على شاطئ السعادة بعد أن عكرته بتشويه قرينها سعد فجعلته يعشقها وقد بلغ من الكبر عتياً ، وبدأت روايتي الجديدة مزوجة الشيخ مانع أخرى على الشيخة نوير فقط ليمنع رحيل بيت من بلدته الناشئة قبل أن أصل للصفحة العاشرة . وعلى مذبح الحرف أنحر بلدتي كلما خنقتني ، أسميها القرية والبلدة ، وهي تعد نفسها مدينة " وأقتل من أكتب من أهلها من عناوين نصوصي لمضامينها " دم ،غياب ، نهاية ، آخر فرصة ، وحدي في البيت ، نعي " وأغيبها هي إذ لا أذكر اسمها في امتداد ما سردت ، جزاءً وفاقاً ربما وربما خوفاً من عقوبات ستوقعها عليّ بكل حال ، وربما إيغالاً في إزهاق تفردها بجعلها فضاء يمكن أن تحتله أي بلدة نجدية غيرها بعد إذ حجبت اسمها . وكما أن السرد فعل فضائحي فهو فعل تطهيري ، فما أسرده يجعلني أفهم بلدتي قليلاً وأحب تجليها على الورق حباً يطوعها للانكتاب ، وأذكر أن قد قرأت مرة أن إبراهيم الكوني لم ينظر أهله الطوارق بعين الحب حتى التقى رحالة أبهرهم المكان وأهله فعاد هو يكتبهم أعمق . وقد تأتي إشارة من خارج السرد فتحرفه صوب زاوية في الذات ما طرقت ؛ فالسليل المغروسة في حضن رمال الربع الخالي ما فكرت مرة بأن أكتب رملها حتى سألتني صديقة مثقفة عن الصحراء ، قلت لها كلاماً إنشائياً عاماً ، صدت اهتمامها عنه وعرفت أن لم يطرق وجدانها لأني لم أعرف الصحراء قبلها . قالتها لأبدأ سعياً بين الفرشة وقرون ( أسماء أماكن في بلدتي) حتى أعطتني الصحراء أول أخبارها بعد تمنع ، وصار وجودها في نصوصي أوضح حتى كان الرمل مسرح روايتي الثانية " كائنات من طرب " التي تبدأ ب ( جاثمة ببجر الرمال الواسع ، جمرة القيظ تضرب نوافذها فتنعكس سيوفاً تخطف أبصار الحشد المقبل ) في روايتي التي أكتب الآن أسمي المكان فردة والفردة في لهجتنا واحدة التمر ، وديرتي ديرة نخل فأكاد أسمي المكان وأنا أقعده على مسرح السرد بلغة أهلي ومرابعهم ، ربما هي طلائع ود وتصالح معه ، وربما بقية من خشية .. بالسرد ربما تهذبت فانتقلت من إحساسي الطاغي بالتفرد الموجع " وحدي في البيت " إلى أن تتسع هويتي لمكان بعمق 300 سنة وأجد نفسي في كل شخوصه إلى حد ما ، وقد قلت في تقديمي لمجموعتي القصصية أول الطباعة عن الناس فيها أنها " بعض من أوجه تصطفق بين جوانحي ، قطعاً ليست لي ، حتماً ليست لسواي ، أظهرها معترفة أني وأنا ألملم شتيت ملامحها ما حاولت أن أرسمني ، وما قصدت أن أموهني ، أوجه أقدمها لا أنسبها لي ولا أبرأ منها " السرد قسر تهذيبي للداخل أيضاً ، أخرجني من داخلي لمحيطي للعالم ، من يقرأ نصوصي الأولى سيجد الحوارات في غالبيتها مونولوجات داخلية أو صمت" تساءل ، فكر ، قال في نفسه ، ظن ، خشي أن يقول ، سكت " هذه الأفعال تتكرر كثيراً فيما أكتب ، ورواية " روحها الموشومة به " مثال دال ، ومع الوقت تحولت الحوارات للخارج حتى كان الحوار بطل رواية " كائنات من طرب " الأوحد . أما المكان الذي كنت أهرب من وصفه ، فقد عدت له في روايتي الأخيرة ليغدو بطلها الحقيقي ، " عانق الرمل نخلة فأنجبا وادي العقيق ، ومن ضلع العقيق نتق مانع فردة " وكان لابد من ذلك حيث العمل يمجد عزيمة أسلافي في قهر الرمل والظمأ وهم ينزلون بوادٍ غير ذي زرع فيحيونه . أثناء الكتابة احتشد شارع الفكر السعودي بنقاشات متشنجة حول تديننا فوجدتني أغرس "نورة" في قلب النص ، وهي شجرة سلم عظيمة كانت في زمن سالف حد البلدة الجنوبي وفي ظلها تعقد أحلافهم ، وتحتها يضع بعضهم مرضى الجدري حتى يختار الله لهم ما يشاء ، وعدت أفتش في لسان أبي عن أوائل شعر استقبل به الوادي إخوان من طاع الله ، وبعد أن شارفت على إنهاء العمل ثارت أحداث الربيع العربي ، ولم تعن السياسة في ذاكرتي قبلها شيئاً فألفيت أبطالي يكشفون لي من أحداث حياتهم رؤى سياسية شديدة التنوع . وختاماً أقول إن ما يحصل خارج السرد وعلى هوامشه ليس بعيداً عنه ، وإن السرد الذي هو هدم مستمر لكل بنيان سابق هو أيضاً نحت وصقل ، به انتقلت ذاتي من مواجهة من حسبته الآخر لفهم أني وهو صالحان للانكتاب والانكشاف تحت سمع وبصر آخر أبعد يتلمس في هويتنا المنسردة شيئاً من ذاته . هل أقنعتكم ؟ جيد ، فقط تذكّروا أنها يمين غموس .