يظلّ خليل النعيمي في روايته الجديدة «لو وضعتم الشمس بين يديّ» (المؤسسة ع. للدراسات والنشر، 2011)، وفياً لاستراتيجيته في الكتابة الروائية التي تُبنى على التخييل الذاتي وملاحقة أسئلة «الكائن» الساعي إلى الانعتاق من قيود الماضي ووطأة المؤسسات الخانقة للفرد ونزوعه إلى «الحرية والمتعة»... وهذا «الوفاء» الذي نلمسه على امتداد سبع روايات، وبخاصة منذ «تفريغ الكائن»، تضعنا أمام كاتب مشدود بقوة إلى موضوع وجودي، فلسفي، سياسي له تفريعات وتلوينات، لكنه يظل في العمق، متصلاً بهذا الموضوع الشائك، الواسع الأرجاء، والذي يمتح أسئلته المتناسلة، المتشككة، من معين حياة الكاتب الممتدة من بلدة «الجزيرة» في جنوب سورية، إلى باريس رمز الحداثة والتحرر واحترام الفرد. في نصوص سابقة، استوحى النعيمي طفولته القاسية في بيئة صحراوية جافة، واستحضر علاقته المميزة مع الأب والأم، ثم اكتشافه دمشق وأماسيها الساحرة، ونساءها الفاتنات المدللات، وعرّج على تجربة الإذلال والطغيان عندما كان مجنداً في مؤسسة الجيش السوري، وصولاً في هذا النص إلى الفترة الأخيرة التي يمضيها في باريس بعد أن نجح في الهرب من جحيم الاستبداد وسحق الكائن، ليحقق ما كان يستشعر ضرورته وهو مقيم في دمشق، وعبّر عنه في رواية «مديح الهرب» (2005) قائلاً: «الإحساس التراجيدي بالنفي الداخلي (الذي لا خلاص منه إلا «بنفي خارجي»، سيحصل فيما بعد... » ص 196. لكنه بعد السفر إلى باريس التي تغدو هي فضاء «لو وضعتم الشمس بين يديّ»، سيكتشف أن ذلك غير كافٍ للقبض على أسرار الكائن الملغز: «هكذا ترى أن «الرحيل الخارجي» لا يحلّ مشاكل الكائن الداخلية، لا يحلها كلها على الأقل، إنه بحاجة إلى «رحيل داخلي» أيضاً. رحيل أصعب تحقيقاً وأكثر خطورة من الخارجي، لم تقم به أنت بعد، كما يتهيأ لي» ص 205. الذي يتلفّظ هذه العبارة في الرواية هو الشخص المحاور للسارد أو الكاتب المفترض طوال الرواية، وهو أقرب ما يكون إلى «قرين» أو ظلّ، يسميه السارد صديق الحديقة ولا يقدم تفاصيل تحدد موقعه، وإنما هو يظهر حين يشاء في حديقة اللوكسمبورغ أثناء وجود السارد المشغول بأسئلته الوجودية والميتافيزيقية. بين السارد والقرين ونفهم أن هذا الأخير يكنُّ تقديراً للقرين العليم الذي يريد أن يجنبه العثرات، غير أنه يحس بالقهر معه ويتطلع إلى كسر هذه الوصاية... على هذا النحو، ينتظم بناء الرواية ليأخذ شكل «حوارية» مسترسلة بين السارد والقرين، أو بينه وبين امرأة فرنسية متسكعة تتردد على الحديقة نفسها أو الشوارع المجاورة لها، أو مع صديق قديم هو محمد خياط الذي هاجر هو الآخر بحثاً عن «الحرية والمتعة»، فلم يجْنِ سوى الأشواك. على امتداد 42 فصلاً تطالعنا فقرات محدودة تستحضر نُتفاً من طفولة السارد وعلاقته بأمه وأبيه، وتلمح إلى لقاءات صعبة ولذيذة في الآن نفسه، مع امرأة دمشقية خاطرتْ بموافاته تحت جنح الظلام... من هنا، تحظى الحوارات مع القرين أو تقليب التأملات مع النفس بالقسط الأوفر من النص، ومن ثمّ يتخذ التخييل الذاتي شكل محاولة للإجابة على أسئلة تنبثق داخل السارد وهو يتخيل ذاته في مواقف تولّد تلك الأسئلة المتشابكة. والملحوظ، على مستوى البناء، غياب الوجود «المادي» الروائي، لحياة السارد في باريس. هو دائماً مشغول بأسئلته وحواراته، يشتكي من بؤس وتهميش، لكننا لا «نعاين» ذلك في نسيج النص. نتيجة لذلك، يمكن أن نسجل ملاحظتين: أ- غياب «الفعل» داخل ما يمكن أن نسميه حاضر الرواية؛ إذ يقتصر الكاتب على وصف فضاء اللقاءات بين السارد وقرينه، وبينه وبين صديقه أو مع المرأة المتسكعة... وهي لحظات لربط حلقات الحوار فقط، وما يستدعيه من ماضيه في سورية يحضر في شكل فعل منتهٍ. ب- نتيجة لهذا البناء، يبدو نص «لو وضعتم الشمس بين يديّ» مطبوعاً بالتجريد، إذ يوحي أحياناً كأنه ينطلق من أفكار وطروحات يصوغها في شكل «حوارية» مفتوحة على جميع الموضوعات، وتريد أن تبدد بعض الأوهام وَالتصورات الخاطئة السائدة لدى الرأي العام (الدوكسا)، أو المعششة في دخيلته ويتوق إلى التخلص منها... يؤيد هذا الانطباع، أننا نطالع في النص ما يذكرنا بمناخ الإشكالية التي رافقت السارد منذ إقامته في دمشق. لكنه، هنا، سيسعى إلى مواجهتها بجذرية أكبر: «... الآن صرتُ أعرف أنني لم أكن أبحث آنذاك، إلا عن القشور، قشور الحياة الرهيبة التي استهلكتها في الانتظار. ولسنوات عدة خلتْ، كنت أسمي نفسي «الكائن القشري»، من دون أن أحكي لأحد عن ذلك. واليوم في حديقة اللوكسمبورغ، أحب أن أعود إلى تلك الأماسي المليئة بالتوتّر والإحباط. ولكم تبدو لي جميلة وقريبة من القلب تلك الأيام الغابرة النابضة بالأحاسيس والإرهاصات... » ص 39. تحول سردي بعد حوارات طويلة مع «صديق الحديقة» كما يسميه السارد، أو القرين كما سميناه، يحدث تحوّل لدى السارد باتجاه التمرد على وصاية هذا الصديق الغريب الذي يدعي الحكمة وحيازة الصواب. هو يريد، وقد وصل إلى باريس وتخلص من القمع السياسي، أن يذهب بعيداً في تحرير ذاته من كل ما يعوق انطلاقها: «اليوم، بعد أن سمعتُ منه ما سمعت، أحسُّني بلا يقين. لكأنني لستُ الذي عاش تلك الأيام الدمشقية السود (...) لكنني لم أعد أريد أن أخبئ شيئاً، عن نفسي ولا عن أحد آخر، وبالخصوص هو. صرت أشعر بأن الحرية هي قبل كل شيء، أن نتكلم عن أنفسنا وكأننا نتكلم عن آخرين (...) سأحاول اليوم أن أكتشف نفسي وأن أكشف للآخرين أقنعتي ووجوهي...» ص 207. وانطلاقاً من هذا «الوعي الجديد» سيحاول السارد أن يمارس بدوره العلاقة النقدية مع الذات والعالم والقيم الموروثة. يستحضر مفهومه للجنس ويستهجنه، يتذكر شعوره بالخوف والاستكانة فيرفضه: «... لم أعد أحب أن أرى أحداً لا يشمخ برأسه حتى وهو خائف» (...) حاول أن يوضح لي الأمر فقال بهدوء: لماذا هذا الخيار الحاسم بين التمرد والخضوع؟ لأن «الوضع» لا يقبل بغير مسوغاته، وهو لا يتحرك من تلقاء نفسه. إنه عاجز عن تغيير سماته. وهو بهذا المعنى بحاجة إلى «من» يدفعه ليفعل ذلك. وهذه ال «من» هي نحن الذين نعيشه ونتحمّل رزاياه» ص 242. على هذا النحو، وهو يبحث عن الأهداف التي تشكّل أفق الكائن المتطلع إلى استعادة كينونته، يقترب السارد من ضرورة الاعتماد المطلق على الذات، والتشبث بالحرية. لكن هذا الاستخلاص كثيراً ما يمرّ عبر التعميم والتشخيص المفتقر إلى التدقيق، بخاصة عندما يُرجع معظم الأدواء التي يعاني منها الفرد (البلادة، الخضوع، التعلق بالماضي، الاستبداد...) إلى ما يسميه «العالم العربي» وكأنّ هذا الفضاء الجغرافي - الثقافي مجبول على صفات سلبية يورثّها لأبنائه. يقول، مثلاً: «وعلى قدر ما أعلم، فإننا في العالم العربي اليوم، قد نموت من دون أن تكون لنا طبيعة واضحة المعالم، أو كيان مستقل. أقصد: كيان فردي متّحد، لا يقبل بالتنازلات المطلوبة منا، ولا يهتم بأحكام الآخرين المنتفخة بالعيوب» ص 169. وما يسترعي الانتباه، هو أننا نجد الكاتب، في موضع آخر، يسوق تعليلاً لهذه الأدواء أكثر معقولية، قائلاً: «وأتابع بنوع من الملامة الذاتية المستترة، حكاياتي الكثيرة التي نثرتُ بعضها من قبل. وهي كلها، تحيل إلى المجابهة العنيفة بين حاجات الكائن الأساسية وبين المفاهيم الاجتماعية التي هدفها الرئيس ردع الكائن في الحياة... » ص 280. شتّان، إذاً، بين «العالم العربي» الفضفاض، والصراع بين الفرد، أي فرد، والمؤسسات القامعة، إذا أردنا الاقتراب من تشخيص الأدواء. على هذا المستوى، يبرز سؤال يلامس بناء الرواية ودلالاتها، وهو متصل بإمكانات شكل «الحوارية المتفلسفة» في صوْغ رؤية تتوافر على قوة الإقناع مقدار ما يتوافر عليه السردُ الروائي المعتمد على الشخصيات والمواقف والصراعات «الملموسة» داخل مجتمع الرواية الورقيّ؟ أطرح هذا التساؤل وأنا أستحضر رواية سابقة لخليل النعيمي «مديح الهرب»، حيث نجد حضوراً أكثر لشخوص وأحداث وصراعات ترافق شكل الحوار التأملي المتفلسف، فتعطيه صدقية أكبر... وأظن أن هذا الشكل من الكتابة الروائية الذي له جذور في نصوص ديدرو (بخاصة: جاك القدري وسيده، 1776)، هو شكل محفوف بالعقبات لأنه يقع على تخوم الفلسفة والرواية، أي على حافة التجريد المقولاتي، المفهومي، وَ ملموسية المعيش والتجربة الحياتية النابضة بالأحاسيس والأفكار. لكن، هناك ما يحمي «لو وضعتم الشمس بين يدي» من الوقوع في شرك «رواية الأطروحة» وهو أن اتسامَ الأجزاء الحوارية بجدلية متناسلة، يجعل جميع التأكيدات والأفكار معرضة للنقض والتشكيك، فيحس القارئ بأن كلّ ما يقرأه قابل للنقد والارتياب، ويستدعي إعادة التفكير والتأمل والمقارنة مع ما عاشه السارد وتخيله ملتصقاً باستيهاماته ورغائبه. أليس هذا أحد مقاصد خليل النعيمي الجاري دوْماً وراء حقيقة ذاته المُتفلتة من الشباكِ التي ينصبها لها، رواية بعد أخرى؟