إن بين أوائل التسجيلات الصوتية للأنماط الغنائية العربية المتوارثة من قرون سواء من الحواضر العربية – الإسلامية "القوالب والأشكال" أو "الفنون الأدائية الموروثة" من الأقاليم المحلية ذات الطابع الجغرافي المتنوع "ريفي، صحراوي، ساحلي .."، وبين اجتراح قالب "الأغنية" في القرن العشرين لم يكن طويلاً. فيمكن رصد أوائل تسجيلات المغني الكبير يوسف المنيلاوي (1850-1911) كانت عام 1907 لنماذج من الموسيقى التقليدية لقوالب مدنية الطابع مثل "الدور، والموال، والموشح"، وهي من وراثة الحواضر العربية الكبرى مثل بغداد ودمشق والقاهرة وغرناطة وتونس حتى تاريخ بداية القوالب الحداثية المتمثلة في النوع الأدائي مثل قوالب الحواريات "ثنائية وثلاثية" وأغنيات جماعية وفئوية في المسرحية الغنائية "شهرزاد" (1920) لسيد درويش (1892-1923) ثم أكمل استحداث قالب المناجاة محمد القصبجي (1892-1966) بأغنية "ماليش مليك في القلب غيرك" عام 1924 مع زكي مراد. بينما نرى في العراق بين أول تسجيل حفظ للملا عثمان الموصلي (1854-1923) هو عمل بعنوان "غزل" (1912) باللغة التركية حين زارها آنذاك فسجل أسطوانة في أسطنبول بينما أول استحداث عند المغني والملحن محمد القبانجي (1901-1988) في مقام اللامي ضمن قالب "المقام العراقي" عام 1925، ثم لحق به الملحن صالح بن عزرا "الشهير بصالح الكويتي" بأغنية سجلتها المطربة سليمة مراد بعنوان "قلبك صخر جلمود" (1929). وإذا ثبت التعارف عليه أوائل تسجيلات وضعت للأغنية السعودية كان بطلها المغني والملحن طارق عبدالحكيم (1918-2012) أعوام دراسته في القاهرة 1950-1954 دون غفلة تسجيلات خاصة لمغنين قدامى حملتهم السنون إلى عصر متقدم فحفظت لهم بعض التسجيلات مثل محمود حلواني ومحمد علي سندي بالإضافة إلى أنه يزعم أن التسجيلات التي حفظت لنا من شركة ميشيان الألمانية للمغني الشريف هاشم العبدلي بين 1918-1920 هي أقدم تسجيلات لأعمال حجازية مثل المجرور والدان والمجس. ولكن حين نعرف بداية التسجيلات المبكرة في الجزيرة العربية أنجزت على يد الرحالة الهولندي ك. سنوك هرخورنيه (1875-1936) الذي كان مهتماً بمواطني جزيرة جاوة المستعمرة الهولندية آنذلك، فهو اعتنى بوضع أطروحة عن "مناسك الحج" عام 1880 قبل أن يزور جدةومكة مابين عامي 1884-1885، ويسكن عند صديقه الجاوي أبو بكر رادن ليضع دراسة تاريخية واجتماعية تدرج ضمن الأنثروبولوجيا الاجتماعية بعنوان "مكةالمكرمة" صدر في مجلدين "المدينة وأشرافها" (1888) والثاني "من الحياة المعاصرة" (1889) وأكمل عمله عندما طرد عام 1885 بسبب صراع مع الفرنسي شارل هوبير الذي قتله دليله بينما سهل القنصل الفرنسي لوستالوت سرقة مسلة تيماء (المنسوبة إلى العصر الكلداني) لصالح الرحالة الألماني جيف أوتينج. عمد هورخورنيه عندما عين مدرساً بعد أستاذه في جامعة ليدن عام 1906 وحين توليه منصب مستشاراً للحكومة الهولندية في الشؤون العربية والداخلي إلى السعي نحو حفظ تسجيلات صوتية مختلفة ليستكمل بها أعماله عن دراسة "موسم الحج" وما يتاح من نماذج الأداء الديني مثل قراءة القرآن الكريم، والأذان وتثويباته، وتلابي الحجيج بالإضافة إلى فنون أدائية موسمية مثل الابتهالات والتواشيح والمدائح النبوية كما وثقت تلك التسجيلات إلى نماذج فنون أدائية دنيوية منساباتية واحتفالاتية كالأنماط الغنائية المتعارف على تواترها لمغنين فرادى مثل الدان والمجرور والمجس أو لغناء جماعي عبر فرق تؤدي الأنماط التخصصية كأغاني الأفراح. ولكن ما علاقة هذه التسجيلات في حفظ تراثنا وخطوة التجديد في الغناء في القرن الماضي؟.