من أمراض المثقفين، ومن المستشري في السجال الثقافي، أن تتوسل بعض الردود بالشخصي دون أي بيّنة، وهذه حيلة ثقافية، وتلبيس على القارئ الذي ربما ذهب إلى أن ثمة خصومة من نوع ما، أو علاقة ملتبسة لم يكن توسل المقال العابر بالفكرة سوى وسيلة لاثخان خصم.. ترددت في العودة إلى التعليق على رد مقال الدكتورة لطيفة الشعلان الذي نشرته في مجلة المجلة، رداً على مقالي هنا حول (الكتابة بين حس المسؤولية والانتهازية.. تفكيك الاحجية)، فلا يحرق الكاتب ويتردى به أكثر من محاولة الانتصار للذات، واستدعاء الدفوعات الشخصية مهما تدرعت بالموضوعية.. فأنا لا أشك بعقل قارئ فاحص، يملك القدرة على استبطان المعنى حتى لو كان في بطن كاتب يجلب بخليه ورجله من أجل اثخان خصم وهمي أو متخيل. لكني وجدت أن ثمة تلبيساً يوحي بمهارة كاتب يجيد استدرار عطف القارئ، ويبرع في اثخان منتقديه، أكثر مما يجيد العودة إلى مشروع مقال يعني بالأفكار لا بالاشخاص، ولا يبحث عن شيء من الحقيقة المعماة بين ثنايا كلام كثير تحول بقدرة قادر إلى هوى شخصي وتصفية حسابات، وكاتب متهافت يحتاج دروساً في علم النفس لفهم الدوافع الانتحارية لمجندات حماس!! لا أجد حرجاً من الاعتراف بالخطأ وحتى الاعتذار، ما إن أصل إلى اكتشاف أن ثمة خللاً في التصور أو الاستشهاد أو التحليل.. بين المقدمات والنتائج ثمة مسافات صعبة، فلست معلماً لأحد، ولم أبحث يوماً عن مريدين. المقدمات الطويلة التي توحي للقارئ أن ثمة هوى شخصياً تحجب المحاكمة النزيهة للأفكار، لا أعرف أي معادلة تضعني فيه كاتبة لا تعني لي شيئاً بشخصها، ولا أرى انها تمثل تياراً ثقافياً أضع نفسي في خصومة معه، كما اني لا اعبر سوى عن نفسي، ولا يعنيني تصفيق أي تيار آخر بحكم نزعته الثقافية.. ما يعنيني هي الأفكار أو المادة الخام لطبيعة مقال ملتبس في مسألة أكثر صعوبة من اصدار (فرمان) إدانة. فما كان في مقاليها من تعليق يكفي أن يكون مادة دراسية تكشف عن نزعة المثقف للتلبيس على القارئ مرة باستدعاء الشخصي ومرة باستدعاء معلومة ملتبسة يتم توظيفها لإيهام القارئ بالموضوعية.. أكثر منها نزعة الوقوف عند معادل موضوعي للحقيقة التي نبحث عنها، أو الاحاطة بكافة وجهات النظر ومناقشتها على نحو محايد يخفف من وطء خطيئة الاستنتاج. ولذا أعود لاركز على مسائل تُعنى بالدرجة الاولى بمحاولة اكتشاف نسق ذهني، وهو في النتيجة يعبر عن نزعة ثقافية تسم طابع السجال والجدل وتتفشى أحياناً كظاهرة، فمن أعجزه توليد الأفكار وربط الوقائع، فر منها للبحث عن حبل النجاة باستدعاء الشخصي والكامن والهوى ولا بأس باستدعاء نرجسي لبضع معلومات، لتنم عن عقل متقص، وهي تلقم ناقدها حجراً حتى يرعوي. في البدء وبطريقة توحي أن ثمة شبحاً يكتب في صحيفة (الرياض)، لا يستحق حتى ذكر اسمه، وذكر اسم الكاتب لا يعني لي شيئاً بحد ذاته، بقدر ما يعبر هذا المزاج في الرد عن نزعة ثقافية تتعمد الغاء الآخر والإمعان في احتقاره، طالما كان يكتب بطريقة لا تروق لنزعة الكاتبة التي كانت تنتظر الاعتراف بميزاتها وحسناتها أولاً - كما تقول - ولا تتحمل أي محاولة نقدية دون أن تغلف بكثير من الثناء والاعتراف بالفضل والشهادة المجروحة وكلام كثير لست ممن يبرع فيه، ناهيك أني لا اعترف بهذا النوع من الكتابة الميتة وشروطها في الثناء الاجوف. الأمر الآخر أليس من احترام عقل قارئ أن يطلع على المقال الذي تناولته الكاتبة في حلقتين جلبت فيها كل ذخيرتها لتشعل المساحات البيضاء ببكائية طويلة حول الشخصي، الذي أبرأ منه ولا اعرف له طريقاً في قاموسي، فقضيتي ابتداءً وانتهاءً انتصار لمعنى إنساني كرامته هذا الدم الفلسطيني المسفوح، في مسلسل المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها، أراه أكبر من توظيف انتهازي مازلت مصراً على أن الكاتبة اقترفته بوعي أو بدونه. من أمراض المثقفين، ومن المستشري في السجال الثقافي، أن تتوسل بعض الردود بالشخصي دون أي بيّنة، وهذه حيلة ثقافية، وتلبيس على القارئ الذي ربما ذهب إلى أن ثمة خصومة من نوع ما، أو علاقة ملتبسة لم يكن توسل المقال العابر بالفكرة سوى وسيلة لاثخان خصم..وفي أحسن الاحتمالات كما تقول السيدة لطيفة الشعلان (انما هو يصفي حساباته مع ثقافة مقابلة يراني من يمثلها). اطمئني سيدتي لا اعترف لك بتمثيل أي ثقافة، وبالمقابل لا أمثل سوى نفسي، ولو كانت الكاتبة الفاضلة استعانت ببعض ما كتبتُ لعرفت انه يستحيل عليها أن تصنفني ضمن (جوقة) المجهود الثقافي لمساندة ثقافة مقابلة، هل يكفي أن أشير ونحن نتحدث عن حالة مقاومة، أن هذا الكاتب المتهم بتصفية حساباته مع ثقافة مقابلة، هو من اوائل من عبر عن ادانته لما عرف بالمقاومة العراقية، لانها مقاومة بلا مشروع، والتقويض لم يكن مشروعاً لمن يحلم بعراق حر. ولم يعنيه أن تضيق به ثقافة مقابلة أو تحتفي به ثقافة مضادة لها، هذا النوع من التلبيس الذي مارسته الكاتبة في مقدمتها الطويلة يراد منه تدريع الذات بأن الناقد ليس سوى وكيل أو مصفي حسابات ثقافة مقابلة.. أي آفة تأكلنا من توهجنا إذا تعلقنا بالشخصي - الوهم، وتجاهلنا أن ثمة مسؤولية يتحملها كل من يعبر عن أفكاره، أولها أن يكون مجالاً للنقد، وقد يكون نقداً اداته مشرط جارح لا قلم متوارياً خلف معسول القول ولينه. حشدت الكاتبة في استهلالها الطويل، ما حشدت، من كلمات لا رابط بينها، فقط لتدين الكاتب الذي تجرأ على نزعتها في القراءة السهلة، فتلك الكلمات التي أجتزئت من سياق طويل ناقش موضوع الكتابة كممارسة ثقافية عامة، ربما تعني الكاتبة وربما تعني سواها وهي مقدمة طويلة في المقال، وتبقى قراءة قابلة للمناقشة، وليست مجالاً لحشد الالفاظ المجتزءة من سياقها حتى تصبح مجرد حملة شعواء يشنها كاتب - شبح يتقصد اسقاط مشروع فكري اسمه لطيفة الشعلان!! بالعودة إلى النقاط الرئيسية التي كان بودي أن تشغل الكاتبة أكثر من أن تشغلها قصة مؤامرة شخصية تستهدفها، تقول انها تدين حركة حماس في استغلال النساء، وتشير إلى الجدل الفلسطيني الذي اثارته حوادث الانتحاريات الفلسطينيات، وأود أن أعيد الكاتبة إلى معاودة القراءة في طبيعة هذا الجدل، فهو جدل تركز حول الشهيدة ريم الرياشي باعتبارها زوجة وأماً، ولا اعرف أن هناك أي حالة بين الحالات التي تعد على أصابع اليد الواحدة من الاستشهاديات الفلسطينيات كان بينهن زوجة أو أم، ناهيك انه من بين 134 حالة استشهادية لم يكن هناك سوى احاد من الاستشهادات الفلسطينيات من اللواتي شاركن في عمليات المقاومة الاستشهادية، وأغلبهن ممن ينتمين إلى حركة الجهاد الإسلامي، والجدل مثاره ليس استغلال حماس للنساء، قدر ما هو مركز على حالة الأم الوحيدة بينهن، الشهيدة ريم العياشي. التلبيس هنا يُعمي على قارئ غير متابع ذلك السجال وطبيعته. أما قصة أن أكون فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين (لا أحسب أن الكاتب السعودي سيكون فلسطينياً أكثر منهم). فتلك سقطة في منظومة وعي. لن اتحدث عما تمثله المسألة الفلسطينية في وعي وذاكرة اجيال عربية تعرف وتحمل معنى أن يكون لفلسطين أولوية في استنقاذ مشروع قبل أن يكون اسكاتاً لصوت عربي لانه سعودي الملامح. الذي أعطاك الحق في إدانة تجنيد نساء الحركة الإسلامية في فلسطين، أعطاني ذات الحق في الدفاع عن قداسة الدم الفلسطيني الذي أرى ألا يكون مجالا لتوظيف انتهازي لادانة ثقافة مقاومة - مهما اختلفنا في الرأي حولها - وحتى لو كانت هذه الثقافة تثير لديك التباسات الضيق بالمحلي، وإذا كانت الكاتبة تتهم الكاتب بأنه يخلط بين ثقافة مجتمعات إسلامية وجماعات إسلامية، فتلك حيلة اخرى منها، فاستدعاؤها لذلك الخلط هو محاولة لتنصل من مسؤولية كتابة، ألم تقل الكاتبة في ردها المتناقض (أي مقاربة سنجدها بين ما تريد حماس تطبيقه على المجتمع الفلسطيني وبين أكثر مفاهيمنا الاجتماعية الثقافية تنميطاً وضيقاً). لم أكن راغباً في الاشارة إلى أن الكاتبة لم تأت بجديد في اثارة متأخرة لجدلية الاستشهاديات الفلسطينيات، لكن المثير انها لم تتحفظ على استخدام ذات المنطق الاداني الذي مارسته كاتبة مثل منى الطحاوي في مقالها المنشور في جريدة الشرق الأوسط في 25 يناير 2004م. الذي اراه أن مقال لطيفة الشعلان صدى لمقال منى الطحاوي.. لكنه صدى خجول ومرتبك على أي حال. عندما تقول النائبة البريطانية عن حزب الاحرار جيني تونج بعد عملية الشهيدة ريم الرياشي في مجلس العموم، انها لو كانت فلسطينية لسعت للانضمام إلى «الانتحاريات»، هل كانت فلسطينية أكثر من الفلسطينيين أم انها تفهمت حقيقة التحدي الذي يواجه الفلسطينيون.. بل ان بعض الإسرائيليين انفسهم تفهموا هذه الحقيقة على نحو أفضل من الكاتبة المستهجنة للدفاع عن الدم الفلسطيني الذي يجب أن نترفع عن ادانته أو استغلاله - بغض النظر عن قناعتنا بجدوى الوسيلة أو تقديرنا لنجاحها أو حتى موقفنا من حركة مثل حماس التي ادانتها الكاتبة صراحة - في حديث أدلت به الكاتبة اليهودية ايلانا هوفمان للاذاعة الإسرائيلية تعليقاً على قيام ريم الرياشي بعمليتها عند معبر ايريز، قالت: (من النفاق أن يدعي عدد من قادة الدولة استهجان أن تقوم أم فلسطينية بتنفيذ عملية انتحارية ضد قواتنا رغم انه من الطبيعي أن يهب إنسان لقتل أولئك الذين يقتلونه ويسلبونه الحق في العيش بكرامة، ولا يتغير الأمر كثيراً إذا كان الفاعل شاباً أو رجلاً أو طفلاً أو عجوزاً أو أماً ترعى اولاداً). هل تفهمت ايلانا هوفمان واقع المرأة الفلسطينية - التي لم تكن تنتظر من حماس تطويقها بالحزام الناسف لتقوم بمهمتها، لانها كانت بحد ذاتها حزاماً ناسفاً، وكانت تطلب شهادة مقاومة لم تستوعبها عقل الكاتبة، ولم ترا فيها سوى استغلالاً حماسياً أو نتيجة ضغوط عاطفية وعلاقات حب وغرام بين ناشطين فلسطينيين ونساء يطلبن الشهادة من أجل ارضاء حبيب أو احتجاج على رفض مشروع زواج لتدين تناقضاً بشعاً بين فكر جماعة واستغلال نسوة حماس!!، وحتى عندما أشارت إلى الدافع الوطني على طريقة تقرير الشاباك، أهملت الدافع العقائدي وتجاهلته - هل كانت هوفمان اقرب إلى فهم تلك العلاقة في كونها تحدٍ وجودي وتضحية مؤلمة، يعجز كثير منا تصورها أو حتى قبولها. وأحيل القارئ الكريم أيضاً إلى ما كتبه المعلق السياسي الشهير يرون لندن في صيحفة (يديعوت احرنوت) وهو ينتقد ذات ما تذهب إليه الكاتبة في ادانة حماس وسواها من المنظمات الفلسطينيات يقول (تبين بعد ثلاث سنوات أن الانتحاريين ليسوا شواذاً في المجتمع الفلسطيني، وأن مخزون الشهداء لا ينضب، الأمر الذي يعني أن التمييز بين المحرضين والمنفذين لا محل له، وأن جميع الفلسطينيين أصبحوا مستعدين للموت في سبيل ازاحة اليهود المحتلين). هل يكفي هذا للرد على فقاعة استغلال حماس التي تحاول الكاتبة أن تجعلها معبراً لتفخيخ النسوة الفلسطينيات اللواتي لا ارادة لهن ولا حيلة امام هذا الاستغلال البشع!! أنا هنا لم أحشد عبارات عاطفية ولم أزايد على الدم الفلسطيني، أنا استشهد بما يساعد على فهم حالة، تجعل فكرة استغلال المرأة على النحو الذي تدينه الكاتبة بلا مصداقية ولا ترقى إلى مستوى فهم حالة النضال اليومي للمرأة الفلسطينية.