إذا كانت الكاتبة تحترم نضال ليلى خالد أو جميلة بوحيرد أو سناء محيدلي، لأنها كما تقول تفهم المرأة في أدبيات الحركات القومية واليسارية لأنها تراها اكثر تقدمية، فعليها أن تحترم أيضاً دماء شهيدات حماس والجهاد وتعتبرها جزءاً من مشروع نضال بغض النظر عن قدرتها على فهم العلاقة بين أدبيات تلك الحركات ودور المرأة النضالي فيها. الكتابة ممارسة ثقافية بالدرجة الاولى، لكنها مسؤولية كبيرة عندما تستهدف عقل قارئ، وإذا كان القارئ الجيد يفرز كاتبه الجيد، فليس من المنتظر ان تتوفر لكل قارئ الادوات المناسبة لفرز وجه كاتبه. والجميل والمعضل في آن، أن الكتابة باب مشرع لكل طارق، والداخل من بوابته قد يحتاج منهجية بالغة الدقة في تشخيص أو استشكال أو محاكمة واقع يعالج بعض بثوره، وقد يكون ممن تتوقف مهاراته عند صناعة المفردة وزركشة العبارة، واستدعاء فن الكتابة وأساليبها البلاغية وهذا لا يعني استدعاء فن الاجادة في محاكمة الفكرة أو القراءة العميقة لواقع ملتبس.. وقد يكون الكاتب تعبيراً عن عقلية غير مركبة، ذات منحى تبسيطي في معالجة اشكال اكثر تعقيداً، وقد يقتصر نظره للمسألة من زواية تشغله، فتتحول الكتابة إلى انشاء بليغ، وحلول سهلة لمسائل صعبة، وقراءة لا تغوص في عمق المعنى وتكتفي بالدلالة الظاهرة دون سواها. وإذا كانت الكتابة في الشأن العام، فهي مسؤولية شاقة، لأنها تحاكم ظواهر اليومي، وتستطلع آفاقاً ارحب في مواجهة كابوس التدرع بمعادلة ثقافية تحتاج الكثير من الغربلة ويتوقف عندها وعليها استبطان لذهن كاتب وقارئ في آن. إلا أن اخطر أنواع التحول أن تصبح أيضاً الكتابة تعبيراً انتهازياً، لا يتوقف مقترفها على التركيز مما يراه استشكالاً إلا ليعزز فكرة قابعة في عقله، وتبدو نوعاً من تصفية حسابات مع ثقافة أكثر منها حفريات عميقة في تناقضات تلك الثقافة. وأخطر تلك الممارسات الكتابية تلك التي تموه على عقل قارئ وقد تحجب عنه ضوء الحقيقة بمفهومها الاكثر مقاربة للاستشكال.. وقد تتذرع بالموضوعية، لكنها تكسر قواعد القراءة المنهجية، وتميل إلى حشد الملتبسات دون سياق يصمد امام المحاكمة العلمية النزيهة، وحتى تلك الاستشهادات التي يتوسل بها كاتب أحياناً ليعزز وجهة نظره حيال مسألة ما، قد لا تصمد امام استشكال آخر يحيل إليه فهماً يتكئ على وعي بمنظومة مترابطة ومنهجية علمية صارمة ودلالات أبعد من غبار مقال إثاره. كأي قارئ تستوقفني أحياناً مقالة هنا وهناك، وخاصة تلك التي تنتهي إلى استدلالات تحتاج إلى ما هو أبعد من مقال عابر، وخطورتها في المحاكمة الذهنية السهلة من خلال استدعاء مفاهيم محلية منمطة لتعميمها على حالة غاية في التعقيد. من تلك الاشارات ما تناولته الكاتبة السعودية، لطيفة الشعلان، في مقال حول «تجنيد الاصوليين للنساء.. تلك الاحجية». حيث يظهر أن المشكلة في طريقة قراءة تلك الاحجية على نحو يخرجها من مسألة تحتاج إلى تأمل عميق ونظر بعيد واقتراب أكثر من معاني ودوافع ذلك النشاط، إلى مقايسات سهلة وغير منهجية، انتهت كما تقول ونقول - أيضاً - إلى مفارقات وانتهازيات في هذه الرمال المتحركة.. وما أكثر افخاخها تلك الرمال. وإذا نخرج من جدلية كون هذه العمليات نوعاً من المقاومة أو الإرهاب، فإن المعول عليه ليس رأياً حول تلك العمليات في مناطق تشهد احتلالاً حقيقياً ونفياً تاريخياً ونشاطاً استيطانياً وظلماً متواصلاً، لا يفسر مدى تأثيره إلا ردود أفعال المقاومة الانتحارية أو الاستشهادية كما هو الحال في فلسطين. تقول الكاتبة (هم يفتحون النار على من يوظف الجسد الأنثوي للمتعة والفرجة على مفاتنه، عليهم ان يحتملوا إذن من يأخذ عليهم توظيف الجسد نفسه للقتل ومن ثم للفرجة على اشلائه المتطايرة. وحتى اللحظة التي تخرج فيها هذه الجماعات بتأصيل شرعي لاشراك النساء في العمليات الانتحارية يحق السؤال عن مفاهيم تقليدية مثل: الستر والخلوة والمحرم والقوامة.. أين ذهبوا بها يا ترى؟ حيث لا احد يعلم ولا يريد! أين وصلوا بمطالب القرار في البيت والانجاب وتربية الأولاد.. وصلوا بها في يناير 2004م لحاجز ايريز حين كانت الانتحارية أم لصبية صغار). يهيئ للقارئ أن ثمة تناقضات، وهو تناقض - إذا وجد - فهو لا يستحق الاستدعاء، وسأقول لماذا؟ فلست معنياً اولا بالدفاع عن أي تيار أو جماعة، ما يعنيني حقاً هو المنحى التبسيطي في معالجة اشكال يتطلب عقلية أكثر تعقيداً، والأمر الآخر تلك الجرأة في إدانة الدم الفلسطيني، وهو دم عزيز وغال يستحق أن نتورع عن توظيفه لإدانة تيار وحسب. ومن الغريب أن تكون المحاكمة لهذا النوع من العمليات تتوقف على ثنائية (قوامة - شهادة)، حسبي أن التضحية بالنفس غاية الجود، ولا تحتاج لتكثيف مصطلحات من ذلك النوع الذي يوحي بالقصر والتضييق على المرأة، ثم اكتشاف انها سلعة اخرى في مواكب التفجير. أما لماذا هي لا تستحق الاستدعاء على هذا النحو، فلانها اولاً لم تصل إلى مستوى أن تكون ظاهرة، وثمة فارق كبير بين ظاهرة لها صفة وشروط الظاهرة التي تستدعي التفتيش في أدبيات تلك الثقافة التي تنتجها، وبين أن تكون حالات فردية، لها جلال الشهادة، اين هي هذه الظاهرة حتى تصبح مشروعاً للاستشكال ومشروعاً للإدانة.. ان كل الحالات الانتحارية أو الاستشهادية في فلسطين التي شاركت فيها المرأة لا تكاد تتجاوز بضع حالات وقس مقابل ذلك الحجم الكبير للعمليات التي نُفذت خلال العامين الماضيين في فلسطين، ومن ثم المقايسة ابتداءً خلل في منهجية الاستدلال. الأمر الثاني من قال أن المفاهيم المحلية - الإسلامية حول المرأة ونشاطها اليومي وحراكها الاجتماعي هي رهن معادلة لها الثبوت في مجتمعات عربية وإسلامية اخرى تشارك فيها المرأة المسلمة بدرجة أكبر وأكثر اثراً في الحياة العامة واليومية. والمرأة الفلسطينية، امرأة مناضلة على كل الجبهات، ومازالت تلد كل اشكال المقاومة وتغذيها. هذا الخلط غير مبرر، ومن ثم استدعاء تلك الثنائية، المرأة والبيت، والمرأة والانجاب، والمرأة وتربية الأبناء، لا يحجب سوى عين تختنق بالمحلي ولا تراه سوى قذى، ولا تمتد بصيرتها إلى واقع آخر تعيشه المرأة المسلمة في فلسطين، وهو أكثر تأثيراً وأبعد مدى من مستوى تعميم تلك الثنائيات الساذجة. (أما أن لم تكن أماً، فإن اللعب على اوتار القلب جزء من التجنيد. يصبح فيه التجنيد لعبة عاطفية خطرة.. بل أخطر لعبة على الاطلاق. التقرير الكامل للشاباك الإسرائيلي حول انتفاضة الاقصى المنشور بدايات هذا العام، يضع إلى جانب الدافع الوطني بالنسبة لبعض الانتحاريات الفلسطينيات، دوافع أملاها الميل العاطفي لناشطين عسكريين في حماس أو الجهاد، أو معارضة الأهل للزواج من شخص معين. أما دراسة الصحافية الروسية بوليا يوزيك (عرائس الموت) التي استغرقت عاماً وتتبعت فيها تاريخ 27 انتحارية شيشانية فانها قد ذكرت شيئاً من ذلك الهيام بين بعض الانتحاريات والقادة الذي جرجرهن من رقابهن للموت انتحاراً). ليس اخطر على عقل قارئ من توسل الموضوعية عبر تقرير مخابراتي أو دراسة صحفية، لتأتي عبارة (وقد ذكر شيئاً من هذا). ازعم أن الكاتبة لا تعرف الكثيرعن الالتزام، العقائدي، وتلبسه بمعتنقه، وتأثيره البلغ والمؤثر في كل تفاصيل حياته، لدرجة الزهد في كل شيء آخر، حتى الولد والزوج. إن ما تورده هو هجاء كبير لبنات جنسها التي لا تنتظر أكثر من حالة هيام حتى تطلق الدنيا بكل مباهجها لتلتحق بمواكب الانتحار. لا ازعم أن تلك الدراسة أو التقرير، هي محض افتراء أو تدليس أو توظيف يستهدف نشره زعزعة ثقة المجموع بمشروع مقاومة، بغض النظر عن الموقف من جدوى ذلك النوع من المقاومة، فتلك مسألة اخرى.. ولست أسير فكرة مؤامرة تستغل فيها حتى تقرير أو دراسة يتيمة.. لكن عبارة (قال شيئاً من هذا)، يستدعي اولا أن نكشف الابعاد الاخرى التي قالها.. هذا جانب، ولا نمر عليها مرور الكرام ونستهدف فكرة تناقض أكثر من احترام عقل قارئ. المسألة الأكثر أهمية، أننا نعرف اكثر مما يعرف هؤلاء عن محتوى وحمولة ثقافة المقاومة لدينا، وندرك أنها أكثر تعقيداً من قصة استدعاء ثنائية: المرأة، البيت - المرأة، تمرير مشروع انتحاري.. وهي أكثر تعقيداً من قصة هيام وفشل مشروع زواج، انها استدلالات سطحية لا تنم عن عقل فاحص ومركب ومتسائل يتجاوز فكرة قال شيئاً من هذا. أي مشروع شهادة أو نضال يستحقه حبيب يجرجر حبيبته من رقبتها للموت انتحاراً.. أي هجاء أكبر من هذا لعقل انثى تحمل روحها بين يديها فقط لأنها تريد أن يرضى عنها محبوبها الذي لن تراه عينها بعد اليوم. أي سخرية من عقل قارئ تصل به استاذة جامعية إلى المستوى من التحليل.. لأن ثمة دراسة صحافية قالت شيئاً من هذا!! لو قُرئت قصة أي من أولئك الانتحاريات أو الاستشهاديات، لوجدنا قصة أكثر بلاغة من حالة استغلال أو هيام أو مشروع زواج لم يتحقق، اجزم انهن اخترن طريقهن بكامل ارادتهن. ووفق منظومة ثقافية - ايديولوجية، وفي قلب أي منهن جرح غائر لفقد أهل أو زوج أو بيت، ومشاهد ترويع يومية، لم تتوقف آلة الاحتلال البغيض عن إثخان قلوبهن بمسلسل تلك الجراحات التي لا اعتقد الكاتبة تجهلها. أن أخطر ما في الأمر محاولة تصفية حسابات مع التباسات ثقافية محلية على حساب دماء شهيدات فلسطين التي كان أقل الواجب أن نتوقف عن هذا التوظيف الانتهازي احتراماً لها. وإن الخطر أيضاً في ذلك المقال أن تسحب مسألة النضال والمقاومة في فلسطين لتمرر على تنظيمات القاعدة وأساليبها.. هذا الخلط ليس له ما يبرره، فإذا كنا نرفض إرهاب القاعدة وندين عملياتها التي لا تحمل من مشروع سوى الهدم والتدمير، فعلينا أن نتورع أن ندين تيار مقاومة بأكمله في فلسطينالمحتلة.. نعرف مشروعه وندرك ابعاده بغض النظر عن جدوى المقاومة الانتحارية ورأينا في أساليب المقاومة أو وسائلها في مواجهة استيطان بشع والغائي لم تعرف البشرية مثيلاً في بشاعته وجبروته وقسوته واستدامته. وإذا كانت الكاتبة تحترم نضال ليلى خالد أو جميلة بوحيرد أو سناء محيدلي، لأنها كما تقول تفهم المرأة في أدبيات الحركات القومية واليسارية لأنها تراها اكثر تقدمية، فعليها أن تحترم أيضاً دماء شهيدات حماس والجهاد وتعتبرها جزءاً من مشروع نضال بغض النظر عن قدرتها على فهم العلاقة بين أدبيات تلك الحركات ودور المرأة النضالي فيها.