تجربة ميدانية خاصة منذ أول يوم ولجت فيه حجرة الدراسة في بداياتي الأولى للتعليم سمعت من معلم القراءة العبارة التي تقول: «العلم في الصغر كالنقش في الحجر» وقد حفظتها عن ظهر قلب خاصة أن هذه العبارة مع غيرها من الآيات القرآنية والأبيات الشعرية كانت مادة لتعليم الخط على الألواح في بداية الأمر ثم على الدفاتر القرطاسية. وبالرغم من أنني عشت في صغري في بيئة بدوية ورعوية وشبه حضرية إلا أنني مكثت سنوات عديدة أقارن بين مفهوم العلم ومفهوم النقش في الحجر وإن كنت عرفت مع الزمن أن العلم يبقى في الذاكرة إذا كان طالب العلم صغيراً في سنه وتزيد معرفته العلمية مع مرور السنين. أما المعنى الحقيقي «النقش في الحجر» فلم يدر في خلدي يوماً من الأيام أنه سيفتح لي بعد فترة من الزمن باباً واسعاً للمعرفة والبحث العلمي كما سأبينه لاحقاً. ولعلي أعود إلى العبارة التي تعلمتها في بداية حياتي وهي «العلم في الصغر كالنقش في الحجر» فقد تبين لي أنها قد ترددت كثيراً على ألسن القراء والكتبة ومنها ما ينسب إلى الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولعل من المفيد استعراض بعض ما وجدته في المصادر الأدبية. فقد روي عن علي بن أبي طالب قوله (22 ق ه-40ه/600-660م): حرض بنيك على الآداب في الصغر كما تربهم عيناك في الكبر وإنما مثل الآداب تجمعها في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر ويروى عن أبي عبيد الله نفطويه قوله: أراني أنسى ما تعلمت في الكبر ولست بناس ما تعلمت في الصغر وما العلم إلا بالتعلم في الصبا وما الحلم إلا بالتحلم في الكبر ولو فلق القلب المعلم في الصبا لألفى فيه العلم كالنقش في الحجر وهذا أبو العباس الجراوي (528-609ه/1134-1212م) يقول): والوعظ في الناس مقبول ومطرح كالخط في الماء أو كالنقش في الحجر ولمحمد بن عبدالله المعولي العماني (عاش في أواخر القرن 11 وأوائل القرن 12ه) بيت من الشعر يقول: والعلم أثبت للفتيان منفعة قد كان تعليمهم كالنقش في الحجر ومن الأحاديث المروية عن البيهقي: «طلب الحديث في الصغر كالنقش في الحجر» ورواه الطبراني في الكبير بسند ضعيف عن أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ: «مثل الذي يتعلم في صغره كالنقش على الحجر، ومثل الذي يتعلم في كبره كالذي يكتب على الماء. لعل مما تقدم هو مدخل لموضوع «المسلمون والنقش على الحجر» فالذي يبدو لي أن العرب القدماء كانوا على بينة بأن الحجر كان مادة للكتابة بالرغم من أن هذا الأمر لم يظهر بشكل جلي في المصادر التاريخية والجغرافية والأدبية إلا في حالات قليلة نجدها في كتب الرحلات الجغرافية لدى المتأخرين في وصفهم لبعض المنشآت المعمارية على طرق التجارة والحج أو في وصفهم لمآثر الخلفاء والسلاطين في المدن والأسوار والمساجد والقصور التي شيدوها. ولعلي استحضر حكاية منقولة عن الأصمعي (عبدالملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي) راوية العرب المشهور (122-216ه/740-831م) يقول فيها: بينما أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت: أيا معشر العشاق بالله خبروا إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع فكتبت تحته: يداري هواه ثم يكتم سره ويخشع في كل الأمور ويخضع يقول: ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوباً تحته هذا البيت: وكيف يداري والهوى قاتل الفتى وفي كل يوم قلبه يتقطع فكتبت تحته: إذا لم يجد صبراً لكتمان سره فليس له شيء سوى الموت ينفع يقول: فعدت في اليوم الثالث، فوجدت شاباً ملقى تحت ذلك الحجر ميتاً ومكتوب تحته هذان البيتان: سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا سلامي إلى من كان بالوصل يمنع هنيئا لأرباب النعيم نعيمهم وللعاشق المسكين ما يتجرع وهناك أمثلة قليلة أخرى نذكر منها: فيروي لنا ياقوت الحموي أنه «وجد على بعض الأميال بطريق مكة مكتوباً: أيا بغداد يا أسفي عليك متى يقضي الرجوع لنا إليك؟ قنعنا سالمين بكل خير وينعم عيشنا في جانبيك وأورد ابن قتيبة الدينوري في عيون الأخبار أنه وجد على ميل في طريق مكة البيت التالي: ألا يا طالب الدنيا دع الدنيا لشانيكا إلى كم تطلب الدنيا وظل الميل يكفيكا ولهذه الأبيات قصة رواها ابن المستوفي عن أحد مترجميه وهو علي بن عثمان البوهرزي المتوفى سنة 596ه، حيث روى أبياتاً لشاعر لم يسمه أنشدها لأحد خلفاء بني العباس وكان الخليفة قد نام تحت ميل من أميال مكة: هب الدنيا تواتيكا أليس الموت يأتيكا وما تصنع بالدنيا وظل الميل يكفيكا ولا تأس على الدنيا وخليها لشانيكا كما أضحك الدهر كذاك الدهر يبكيكا لقد بدأ مفهوم معنى «النقش والحجر» لدى الباحث يزداد ترسخاً مع مرور الزمن على مقعد الدراسة الجامعي (كلية الآداب - جامعة الملك سعود) وذلك من خلال معلومات محددة جداً في مواد التاريخ ومنها تاريخ الشرق الأدنى القديم أو في ضوء ما يردده على مسامع الطلاب الأساتذة المحاضرون عن الكتابات المصرية القديمة (الهيروغليفية) والكتابات المسمارية عند الآشوريين هذا عدا عن الكتابات الاغريقية القديمة المتمثلة في اليونانية واللاتينية وغيرها. وقد عرفنا ونحن طلاب أن هناك كتابات عرفت في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام وهي الديدانية واللحيانية وخط المسند الجنوبي والشمالي والكتابات الآرامية والنبطية. وهذه الكتابات بثها بيننا نحن طلاب التاريخ في السنة الثانية من دراستنا الجامعية الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري فكانت بالنسبة للباحث مثار فخر واعتزاز وهو أن عرب الجزيرة قبل الإسلام كانوا يتقنون القراءة والكتابة. ولكن الأمر زاد تعقيداً حينما علمنا أن تلك الكتابات منقورة على صخور الجبال وأحجار المباني الدينية والمدنية. وكانت أول تجربة لطالب مبتدى هو مطالعة كتاب جرجى زيدان عن العرب قبل الإسلام وكتاب فيليب حتى عن تاريخ العرب ولم تكن أجزاء كتاب: تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي قد اكتملت بعد، حيث إن الطبعة الأولى من الجزء الأول من الكتاب لم تظهر إلا في سنة 1968م ولم يدخر الدكتور الأنصاري وسعاً في تعريف طلابه بأوائل الرحالة والمستكشفين الغربيين الذين كان لهم السبق في اختراق أجزاء من الجزيرة العربية وجمع معلومات متفرقة عن الحياة الاجتماعية والثقافية والأوضاع الاقتصادية فيها، بما في ذلك كشف وتوثيق لعدد لا بأس به من الكتابات والنقوش القديمة في العلا ومدائن صالح ونجران وبيشة وغيرها من المناطق، ومن هؤلاء على سبيل المثال تشارلز هوبير (1837-1884م) وتشارلز داوتي (1843-1926م) ويوليوس أو يتنج (1839-1913م) وألويس موسل (1868-1944م) وسانت جون فيلبي (عبدالله فيلبي) (1885م-1960م). كذلك ترسخت في أذهاننا أهمية العمل الذي قام به كل من: انطونان جوسن ورفائيل سافيناك في رحلاتهما الاستكشافية للعلا ومدائن صالح في الأعوام 1907م و1909م و1910م. وأذكر أول محاضرة عامة للدكتور الأنصاري ألقاها في قاعة الجامعة الرئيسية بالملز كانت عن الكتابات اللحيانية والعلا ومدائن صالح. كما أن الرحلات التي كانت تنظمها جمعية التاريخ والآثار برئاسة الدكتور الأنصاري شملت مناطق عديدة من المملكة منها: ما سل الجمح بالدوادمي والقصيم وحائل وتيماء والعلا ومدائن صالح والخرج وانتهاء بآثار قرية الفاو ونجران فشاهدنا ونحن طلاب أصنافاً عديدة من الرسوم الصخرية والكتابات العربية القديمة. وعلى الرغم من أن تلك الآثار كانت تأسرنا ونتسابق لاكتشافها ومحاولة تفسيرها إلا أن الحرف العربي الإسلامي بين تلك الكتابات لم يكن شائعاً في المواقع التي شملتها تلك الرحلات، لكنها رسخت مفهوم المقولة «العلم في الصغر كالنقش في الحجر». ويبدو أن الدكتور الأنصاري حاول استمالة صديقه وزميله الدكتور منصور الحازمي لعلم الكتابات القديمة فكانت التجربة الأولى والأخيرة هو ذلك البحث المشترك عن «وادي آلاب وكتاباته» كما أن الدكتور الأنصاري لم يفلح في استمالة رفيق دربه الدكتور أحمد الضبيب الذي كان له وجهة أخرى نحو التراث الأدبي ولهجاته. لقد كانت تجربتي الدراسية المبكرة في جامعة الملك سعود وما صاحبها من رحلات اجتماعية وثقافية دافعاً للاستكشاف والمغامرة في مستقبل أيامي للدراسات العليا في موضوع الآثار الإسلامية. كما ساعد موضوع بحثي عن آثار درب زبيدة على امتداد الطريق من العراق إلى مكةالمكرمة عاملاً مؤثراً في الكشف عن الكتابات والنقوش الإسلامية التي لم تكن من اهتمامات الرحالة الغربيين على وجه العموم، وكانت هذه التجربة المبكرة بداية لرحلة طويلة فتحت أمامي وأمام غيري من الباحثين باباً واسعاً للتعامل مع مصدر من أهم مصادر الدراسات في الآثار الإسلامية. فقد تبين لي عظمة الحضارة الإسلامية من خلال التطور السريع في رسم وتخطيط وهندسة الطرق، وتشييد المباني من منازل وقصور ومساجد، وحفر الآبار والعيون، وإنشاء السدود والبرك والقنوات، وإقامة الأعلام، وتثبيت الأميال بدقة متناهية على امتداد درب زبيدة وتفرعاته، وقد وجدت ضالتي في المصادر الجغرافية المبكرة ليس فقط في تعداد المحطات والمنازل وجهود الخلفاء والسلاطين والأمراء والوزراء والوجهاء من رجال ونساء في تشييدها بل فهمت أن المنشآت البنائية كان يكتب على واجهاتها تواريخ بنائها كما كانت الأميال يكتب عليها لتحديد المسافات بين المنازل والمحطات وقد كانت ثمرة البحث في المصادر وفي الميدان على حد سواء محققة للآمال والتطلعات. كان موضوع درب زبيدة خطوة على الطريق للتركيز على الكتابات والنقوش الإسلامية. وفي ظروف عدم وجود دراسات آثارية ميدانية سابقة على أرض المملكة العربية السعودية فقد تم التركيز على الدراسات المحلية وجهودات المؤرخين والأدباء السعوديين بدءا بمجلة المنهل التي صدر عددها الأول عام 1355/1937م، ومجلة العرب التي بدأت في الصدور عام 1386ه/1969م. ومن أوائل الكتب عن الآثار في المملكة كتاب عبدالقدوس الأنصاري (رحمه الله) بعنوان «آثار المدينةالمنورة» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1353ه تلاه كتاب «بين التاريخ والآثار» الذي صدر عام 1969م. ويعد كل من حمد الجاسر وعبدالقدوس (رحمهما الله) من أوائل من عني بالمواقع والمعالم الجغرافية والتاريخية والآثارية، وكانت كتاباتهما وتعليقاتهما وخاصة حمد الجاسر لها أهميتها في التعرف على المواقع ذات الصلة بالدراسات الآثارية. وقد سبقهما بعض الشيء عدد من الكتاب العرب مثل محمد حسين هيكل في كتابه «منزل الوحي» وخير الدين الزركلي في كتابه «ما رأيت وما سمعت». ومن التقارير المبكرة عن النقوش الصخرية في الحجاز ما كتبه عثمان رستم في مجلة الحوليات المصرية عام 1948م. غير أن الدراسات المباشرة لموضوع النقوش الإسلامية فنشير إلى البحث المهم الذي كتبه البحاثة محمد حميد الله عن النقوش الإسلامية المبكرة في المدينةالمنورة التي اطلع عليها في فبراير 1939م على واجهة جبل سلع، وتحدث عنها في جامعة اكسفورد في شهر مايو من العام نفسه، ونشر بحثه عن هذا الموضوع في ذلك العام في مجلة (Islamic Culture) التي كانت تصدر في الهند. وفي عام 1948م نشر جورج مايلز في مجلة الدراسات الشرقية (JNES) بحثاً عن النقوش الإسلامية المبكرة بالقرب من الطائف، وأعقبها ببحث نشر في المجلة نفسها عام (1953-1954م) عن نقش مؤرخ سنة 304ه يؤرخ لعمارة طريق الحج على يد الوزير العباسي علي بن عيسى، هذا النقش عثر عليه الجيولوجي كارل تويتشل. ومن أهم الدراسات التوثيقية للنقوش الإسلامية في المملكة العربية السعودية فقد كانت حصيلة الرحلة الثلاثية التي قام بها كل من: كونزاك ريكمانز، وفيليب ليبنز، وسانت جون فيلبي في الفترة من 24 أكتوبر 1951م وحتى 15 فبراير 1952م. كانت هذه الحملة في ظني من أنجح الرحلات العلمية التي أثمرت في امتاع الباحثين بدراسات استطلاعية، وفيها شيء من الاتزان وفتحت آفاقاً جديدة في البحث العلمي. فقد نشر ليبنز هذه الرحلة في كتاب بالفرنسية عام 1956م (أصدرت دارة الملك عبدالعزيز ترجمة باللغة العربية لهذا الكتاب عام 1419ه/1999م) ونشر كونزاك وابن أخيه جاك ريكمانز في مجلة (Le Museon) عام 1953م. وبالنسبة لحصيلة ما جمعته البعثة من مئات الرسوم الصخرية فقد تصدى لدراستها عالم الآثار الإيطالي ايمانويل أناتي (Anati,E.) في خمسة مجلدات بعنوان (Rock Art in Central Arabia) صدرت تباعاً في الفترة ما بين 1968-1972م. أما النقوش الإسلامية التي نسختها وصورتها البعثة العلمية فقد وضعت أمام العالم الألماني أدولف جروهمان الذي صنفها ووضعها في كتاب توثيقي بعنوان (Arabic Inscritions) صدر في لوفان عام 1962م اشتملت الدراسة على (305) نقوش منوعة جمعت من مواقع عديدة منها ثمانية نقوش إسلامية مؤرخة أقدمها يؤرخ لسنة 46ه، ومن النقوش ذات الشهرة في هذه المجموعة نقش معاوية بن أبي سفيان المؤرخ بسنة 58ه. حقاً كانت هذه الرحلة العلمية ناجحة جداً بسبب أهمية المعلومات التي حصل عليها العلماء المتخصصون الذين شاركوا فيها في مقدمتهم فيلبي عالم النبات والخبير في شؤون الجزيرة العربية، وكونزاك ريكمانز أستاذ اللغات السامية، وفيليب ليبنز الخبير في رسم وتصوير الآثار والكتابات القديمة، وجاك ريكمانز عالم اللغويات والمختص في الكتابات العربية الجنوبية، والأهم من هذا وذاك أن هذه الرحلة الاستكشافية صدر لها ترخيص من ديوان جلالة الملك عبدالعزيز (الشعبة السياسية) متضمناً شروطاً غاية في الأهمية منها: 1- الالتزام بتسليم حكومة المملكة العربية السعودية كل ما تعثر عليه البعثة من الآثار القديمة التي يمكن تصويرها والالتزام بعدم تصدير شيء من ذلك. 2- الالتزام بتقديم تقرير إلى حكومة المملكة العربية السعودية يتضمن جميع الاكتشافات بما في ذلك الرسوم والصور التي تنفذ خلال الرحلة. وتدل هذه الشروط على اهتمام الملك عبدالعزيز بكل ما من شأنه مصلحة للبلاد والمحافظة على تراثها خاصة أنه (رحمه الله) اشترط كما يذكر فيلبي ألا يكون ضمن فريق البعثة أي يهودي أو متعاطف مع الصهيونية بأي حال من الأحوال. كان ذلك قبل أكثر من 56 عاماً وقبل ما يزيد على حقبة من الزمن من إنشاء إدارة للآثار والمتاحف ومن ثم صدور أول نظام للآثار في المملكة عام 1392ه. لم يكن تتبعنا لدراسة الآثار الإسلامية على أرض المملكة العربية السعودية وخاصة الكتابات والنقوش الإسلامية بعيداً عن الجهود العلمية والدراسات والبحوث التي كانت تجرى في الدول العربية المجاورة منذ سنوات بعيدة خاصة في الكتابات والنقوش المنفذة على المساجد والقصور والقلاع والمساكن والمنشآت المائية وعلى الأحجار الشاهدية. ففي مصر تم حصر ما يقارب من أربعة آلاف شاهد حجري ورخامي جمعت من الجبانات الإسلامية القديمة بالقاهرة وأسوان، وقد بدأت دار الآثار العربية بإخراجها في مجلدات تباعاً على يد المسيوجاستون فييت مدير إدارة الدائرة حيث صدر المجلد الأول عام 1932م والمجلد العاشر عام 1942، وحسب تصنيف هذه الأحجار تم تمييز حجر شاهدي واحد من القرن الأول الهجري مؤرخ بسنة 31ه. ومن خلال نسب المتوفين المنقوشة أسماؤهم على تلك الأحجار فأغلبها ينتمي إلى القبائل التي جاءت مصر في زمن الفتح وبعضها إلى السكان المحليين من أنحاء مصر، ومن سوريا والأردن والعراق كشفت أعمال المسوحات والتنقيب والتوثيق عن عدد كبير من الكتابات التوثيقية والتأسيسية على المباني وعلى الأحجار يأتي في مقدمتها تلك الأعمال التي نشرها (فان برشم) في الأعوام 1897م و1909م و1920م و(ماير) عام 1945 وسولانج أورى عام 1967م وقد برزت في هذه الأعمال مدونات خطية على الأحجار والمباني تعود لعصور الخلفاء عبدالملك بن مروان وهشام بن عبدالملك. وفي العراق كشف عن نقش شاهدي في حفنة الأبيض قرب كربلاء مؤرخ بنسة 64ه. ويصعب الاستطراد في تتبع الدراسات البحثية في حقل الكتابات العربية في باقي أجزاء الأقاليم التي وصل إليها الإسلام خشية أن نبتعد عن موضوع هذه الورقة لكني سأكتفي بالإشارة إلى النقوش الإسلامية المبكرة التي عثر عليها على كتل أو ألواح حجرية عثر عليها في جبل أسيس جنوبدمشق وقد كتب عنها أبو الفرج العش (رحمه الله) بحثاً موجزاً عام 1963م، وتعود هذه النقوش للعهد الأموي وبلغ عددها (106) نقوش تم تمييز المؤرخ فيها إلى السنوات 93، 100، 108، 113، 119ه. لقد كانت هذه الاكتشافات من الخطوط والنقوش الإسلامية المبكرة مادة أولية لعدد من الباحثين في دراساتهم الأكاديمية، ونذكر منها على سبيل المثال الدراسة التي أعدها إبراهيم جمعة لنيل درجة الدكتوراه من قسم الآثار الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1943م. وقد بقيت هذه الدراسة غير منشورة حتى ساعدت جامعة بغداد في طباعتها عام 1969م. وتناولت هذه الدراسة تطور الكتابات الكوفية على الأحجار في مصر في القرون الخمسة الأولى للهجرة مع مقارنات أخرى من العالم الإسلامي، كذلك قدمت الباحثة سهيلة الجبوري رسالة جامعية للماجستير في جامعة بغداد عن: «أصل الخط العربي وتطوره حتى نهاية العصر الأموي» وقد صدرت هذه الدراسة في كتاب مطبوع عام 1977م ومع أهمية هذا العمل وجديته في تتبع مراحل الخط العربي من قبيل البعثة النبوية وحتى صدر الإسلام إلا أن الباحثة تعجلت في إصدار حكم جائر عن عدم وجود وثائق مكتوبة تعود إلى الفترة الزمنية القريبة من عصر الرسالة المحمدية من الحجاز مستدلة بذلك على استدراك إسرائيل ولفنسون في كتابه «تاريخ اللغات السامية الذي صدرت طبعته الأولى في القاهرة عام 1348ه/1929م فقد تطوعت الباحثة في ايجاد المبرر لذلك بقولها: «وقد يعزى السبب في ذلك إلى ندرة الحفائر الأثرية في شبه الجزيرة العربية والذي يعود إلى التزمت الديني». وقد كان ولفنسون أكثر تأدباً من الباحثة في طرحه لاحتمالات هذا النقص وتطلعه لمكتشفات مستقبلية بهذا الخصوص وننقل حرفياً ما قاله ولفنسون: «ومن حيث إننا لم نعثر إلى الآن على نقوش في مراكز بلاد الحجاز الأصلية مثل الطائفومكة ويثرب فإننا أمام أمرين إما أن نحتمل أن العرب لم يتركوا آثاراً منقوشة قبل ظهور الإسلام وإما ان أوان كشف هذه الآثار لم يحن بعد. أما الأمر الأول فغير محتمل حسب رأينا إذ لا يعقل أن العرب في مكة ويثرب لم يكونوا يستعملون الكتابة في عصر ظهور الإسلام ولدينا روايات تاريخية يقينية عن وجود كتاب كانوا قد مارسوا فن الكتابة في ذلك العهد، لذلك يحتمل أن تكون هناك بعض نقوش على الأحجار والصخور أو كتابات على الرق لم تكشف بعد والمستقبل كفيل بحل أحد هذين الاحتمالين. في عام 1358ه (1939م) صدرت الطبعة الأولى من كتاب الخط العربي للأستاذ محمد طاهر كردي وكان - رحمه الله - مستوعباً للآثار وأهميتها ومتابعاً لحركة الكشف والبحث العلمي عن الكتابات والنقوش والمخطوطات وما يحتويه دور الكتب من مصاحف مخطوطة، وما تشمل عليه المتاحف من برديات مكتوبة ومسكوكات. وكان متابعاً لما نشره أويتنج وليتمان وغيرهما، وما تضمنه كتاب ولفنسون من تعليقات. وأكد الكردي على أن كتابات جبل سلع هي أقدم الكتابات الإسلامية المعروفة. وذكر الكردي مشاهداته لكتابات منقوشة على أحجار جبل الكعبة ووادي العقيق قرب بئر عروة وفي مناطق بعيدة عن المدينة. ومما قاله الكردي «وفي الحقيقة أننا لو قمنا بالحفر والتنقيب عن الآثار المطمورة في الحجاز لظهر لنا ما يجعلنا حيارى عندها...». يتبع ٭ النص الكامل قدم في خميسية حمد الجاسر في 18/4/1426ه. * وكيل وزارة التربية والتعليم للآثار والمتاحف