لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تطرق فيها دارة الملك عبدالعزيز موضوع المصادر التاريخية الكلاسيكية لتاريخ الجزيرة العربية، فقد مرّ موضوعها في عدد من الأنشطة واللقاءات العلمية مثل ندوة الخليج العربي في الوثائق الفرنسية التي ألمحت بعض الأوراق العلمية إلى وجود بعض الخطوط والرسومات العاكسة لعلاقة تاريخية قديمة بين أوروبا والجزيرة العربية، كما أن تلك النقوش الصخرية كانت محل اهتمام متخصصين يشيرون إليها بين فينة وأخرى في أنشطة الدارة التي تتطلب مداخلات علمية ، لكن دارة الملك عبدالعزيز التي تقدم ورشة العمل التي قد لاتكون الأخيرة عن مشروع علمي جديد ومهم عن تلك المصادر النادرة ؛ قد ترجمت في وقت سابق كتابين عظيمين في مجال الآثار والإنثربولوجيا كانا مؤلفيهما قد وثّقا عدداً من النقوش واللقى الأثرية في أماكن متفرقة من الجزيرة العربية، فمن أقدم الكتب التي نشرتها دارة الملك عبدالعزيز كتاب (رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية) لفيليب ليبنز أحد أعضاء البعثة الاستكشافية البلجيكية إلى المملكة العربية السعودية عام 1371ه/ 1951م التي أذن لها الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه وتحمل نفقاتها ، ترجمته الدارة ونشرته عام 1419ه بمناسبة الاحتفال بمئوية تأسيس المملكة العربية السعودية ضمن سلسلة معنية بالتاريخ الوطني واستجلاء قيمه التاريخية والإسلامية، وبلغت محصلات الرحلة ذات الخمسة آلاف كيلومتر أكثرمن اثني عشرألف نقش حميري مصور وألفي صورة فوتوغرافية لمراحل الرحلة، كما رصدت الكثير من المواضع الجغرافية والمعالم الأثرية كانت بمثابة مكتبة عظيمة المعطيات، وشكّلت خريطة أثرية كاملة لغرب المملكة العربية السعودية وجنوبها ووسطها أو لوسط الجزيرة العربية ويكاد يكون الكتاب هو اللمحة المدونة الأولى لقرية الفاو الأثرية، وهي البعثة العلمية الأولى التي تمت في المملكة العربية السعودية، وكان نشرهذا الكتاب إشارة إلى الاهتمام بالنقوش ودعوة مدوية لمزيد من الباحثين السعوديين للدخول إلى العمل الميداني الأثري فضلاً عن كونه ملهماً لاقتباس بعض العادات والصورالاجتماعية التي تعيشها البلاد في بداية تأسيسها، كان الكتاب محملاً بجدية دارة الملك عبدالعزيز بالرعاية والمتابعة لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز في نقل إرث الرحلات الاستكشافية لكونها مصدرا لا ينضب من المعلومات الجديدة التي تتوالد مع تزايد الدراسات الممنهجة عليها ، أما الإصدار الثاني فهو ترجمةالكتاب المشهور(رحلة استكشافية أثرية إلى الجزيرة العربية) لمؤلفيه وصاحبي رحلته أنطوان جوسن ورفائيل سافينياك اللذين سارا في رحلة علمية متفحصة للنقوش والرسوم من القدس إلى تبوك عام 1907م، وهو الذي ترجمته دارة الملك عبدالعزيز بالتعاون مع معهد الدراسات الشرق أوسطية بجامعة ليون لومييرالثانية بفرنسا ودفعت به إلى الأوساط العلمية قبل ثمانية عشرة عاماً ليفتح الأبواب بأوسع ماكانت عليه لدراسات وبحوث آتية ويحرك بركة النقد لهذا الكتاب /المشروع، والكتاب يعد علامة فارقة في تسجيل النقوش النبطية والمعينية واللحيانية والعربية واليونانية باستخدام الكاميرا الفوتوغرافية لأول مرة في المنطقة وتحليلها وترجمتها إلى معانٍ معروفة ودراسة المدافن في المدائن ومكوناتها الأثرية وهو ما سهل الطريق أمام آخرين إلى أفكار جديدة ودراسات ميدانية أدق، وكان صدى الكتاب الذي يعد السابق لآثار منطقة مدائن صالح وما حولها ونقوشها وعملاتها في محيط تبوك مجلجلاً في الأوساط الأكاديميةالمحلية لجودة الترجمة ودقتها ثم لتوفيره بكميات كافية للمكتبات والأفراد والمؤسسات العلمية والتعليمية، ، الكتابان السابقان قدما معطيات أثرية لابد أنها شجعت لحراك بحثي جديد أو أنها دعمت بالمعلومة المصورة باحثين لتعقب أشمل لمحفورات صخرية وكهفية ، كما أنهما أسسا لقاعدة انطلاق عمل جديد لدارة الملك عبدالعزيز للبحث في مجال المصادر الإغريقية والرومانية في الجزيرة العربية وللقناعة الكافية بتأسيس مشروع علمي تتحمل أعباءه العلمية والمالية، يستقصي تلك المصادر الكلاسيكية وما كتب عنها وألف فيها وجمع منها وتهيئتها بطريقة سهلة لمجموعات علمية في هذا المجال الذي يحتاج حسب تقدير العاملين فيه إلى عمل آخر كبير ومؤسساتي يحقق الشمولية والدقة ويحفظ لهذا النوع من المصادر حقه التاريخي في التأريخ وإنعاش العلوم الأثرية. وما دمنا في هذا الإطار فقد أصدرت الدارة كتاباً قبل سنتين عن المجامر القديمة في تيماء بعد موافقة اللجنة العلمية على موضوعه الجديد وفكرته المبتكرة، وهو رسالة ماجستير عام 1426ه للباحث محمد بن معاضة بن معيوف تحدثت عن أنواع المجامر في منطقة تيماء الغنية بالآثار والمعثورات التي تعود إلى آلاف السنين مثل المجامر الحجرية والمجامر الفخارية والمجامر الزخرفية المستخدمة في إحراق البخور لكسب الرائحة الجميلة أو لدلالات روحية أخرى قبل ظهور الإسلام ، وماتمثله هذه المجامر ذات الأحجام المختلفة من رواج لتجارة البخور بين عرب الجزيرة العربية واليونان والرومان، إذ وجدت نقوش قديمة بلغات أخرى غير عربية تدلل لتلك العلاقات التجارية التي لابد أن تنتج علاقات اجتماعية، كما توجد حسب الباحث نقوش عربية في أماكن يونانية ورومانية تؤكد على الدلالة نفسها. دارة الملك عبدالعزيز طبعت العام الماضي كتاب مدونة النقوش النبطية في المملكة العربية السعودية للدكتور سليمان بن عبدالرحمن الذبيب أستاذ الآثار بجامعة الملك سعود ونشرته في جزأين كبيرين شملا 967 نقشاً تعود إلى دولة الأنباط القديمة التي استوطنت الجزيرة العربية صورت فوتوغرافياً وترجم المؤلف لغتها إلى العربية وحلل مكوناتها الحرفية ومحتواها في عدة مناطق من المملكة العربية السعودية. إن دارة الملك عبدالعزيز تستطيع شكر أصحاب الجهود العلمية الفريدة بشكل يحقق الاحترام لهم والتعريف بهم في محيط أوسع بطبع كتبهم والتجوال بها في المعارض التي تشارك بها داخلياً وخارجياً ويوضعها في القائمة الدائمة لإصداراتها ودعوة المنشور لهم إلى مناشطها العلمية المختلفة . آخر الخدمات التي تقدمها الدارة للمصادر الكلاسيكية والمهتمين بها قبل مشروعها المقبل الذي يجهز له بطريقة علمية شاملة هو مشروع تتبع مسارات طرق القوافل القديمة في شبه الجزيرة العربية الذي يقوم به عبدالله بن محمد الشايع منذ ثلاث سنوات يسجل خلاله مرصودات محسوسة وشواهد أثرية نادرة من الركامات الحجرية على طرق عبرها التاريخ بجوار جمال قبائل سادت ثم بادت في شبه الجزيرة العربية ويصورها بكاميرا سيشكرها القادمون خير الشكر، وقدمت الدارة الجزء الأول من هذا المشروع العلمي الميداني في أطلس فاخر الإخراج معتمد على صورة فاحصة للشواهد التاريخية النادرة والغريبة . إن، دارة الملك عبدالعزيز وهي تقدم مشروعها الجديد عن المصادر الكلاسيكية من خلال ورشة عمل تتمخض عن رؤى أولية لركائز المشروع المنتظر العلمية والإدارية فإنها تفتح ذراعيها لجميع المقترحين والمفكرين في المسألة والراغبين في العمل في هذا المجال الذي سبق اكتشاف الورق أوسبق استخدام الورق في التدوين ، وهي أيضاً تزيد رصيدها من المشروعات في بنك خدمة تاريخ المملكة العربية السعودية وتاريخ الجزيرة العربية بصفة عامة وتحتضن الجميع بأفق مؤسسة واعية وخبيرة نحو مشروع سجل كثيرون الحاجة فيه إلى العمل الجماعي المرتكز على الرؤية إلى الجهات الأربع المهمة لا على جهة واحدة فردية .