لعل جيل المثقفين والمتعلمين الجدد الذين ولدوا في الستينات وما بعدها، لم يدركوا فترة ازدهار المسرح العراقي، فلم يقيض لهم مشاهدة المسرحيات المتميزة لابراهيم جلال وسامي عبد الحميد ويوسف العاني وقاسم محمد، ولم يشرفوا سوى على ثمالة المسرح الذي وقع في الثمانينات وما بعدها في مأزق الرقابة الصارمة، وما تتطلبه سياسات الحروب والدكتاتورية. ونحن الجيل الذي سبقهم ظلت في ذاكرتنا مسرحيات من تلك الفترة المزهرة " السيد بونتلا وتابعه ماتي" و"تموز يقرع الناقوس" و" النخلة والجيران" و" بغداد الأزل بين الجد والهزل" و" بيت برنارد ألبا" والكثير من الأعمال التي قدمها أساتذة المسرح العراقي في السبعينات، تلك التجارب الرائدة التي حددت هوية المسرح العراقي وقدمته إلى الجمهور العربي في المهرجانات المرموقة. سامي عبد الحميد من بين أهم المخرجين والممثلين العراقيين، بل من رواد المسرح الذين نقلوا الحداثة إليه منذ الخمسينات. وفي كتابه " أضواء على الحياة المسرحية في العراق" دار المدى، يتابع رحلة توثيقية متثبتا من مفاهيم ونظريات ورؤى رافقت تصورات الرواد والأجيال التي لحقتهم. الكتاب في الأصل مجموعة مقالات سبق ان نشرها المؤلف، وعلى تشتت مواضيعه، وتداخل نصوصه، غير أنه يؤرخ الحركة المسرحية العراقية التي لم تحظ بتاريخ مدون لها على عكس الفنون الأخرى، التشكيل والموسيقى. مطلع أربعينات القرن العشرين عندما عاد حقي الشبلي من دراسته بباريس، أسس فرع التمثيل في معهد الفنون الجميلة، ثم تتالت عودة الرواد وفي مقدمتهم ابراهيم جلال الذي تولى الإشراف على قسم الدراما في الخمسينات. زمن حقي الشبلي يؤرخ اختراقا للتقاليد السابقة، وفي عودة ابراهيم جلال وجاسم العبودي، والإثنان درسا الدراما في معهد غولدمان بشيكاغو، ونقلا نظرية ستانسلافسكي إلى طلبتهما، غدا اتصال المسرح العراقي بالتيارات العالمية، وبينها مسرح الطليعة الفرنسي والمسرح البريختي، وعروض التجريب الحديثة في مسارح العالم، غدت تلك التجارب بتنوع اتجاهاتها، درسا نظاميا ومادة للتطبيق سواء في صفوف الأكاديمية أو خارجها، هذا ما تمكننا منه مدونة سامي عبد الحميد في استذكارها تلك التفاصيل. بيد أن أية جردة لتاريخ المسرح العراقي تدلنا على تأثيرات ابراهيم جلال وكل من زامله وبينهم المؤلف ويوسف العاني وقاسم محمد وسواهم في تشكيل صورة هذا المسرح. وهكذا بمقدورنا متابعة تلك المسيرة المتعثرة بين صعود وهبوط، التي يؤرخ لها سامي عبد الحميد. لعل المسرح العراقي كان شديد الصلة بأحداث العراق المعاصر، وبين الفنون أوضحها تأثراً بالموجات الفكرية والأوضاع السياسية. فهو فن الجماعة، مع ان الخصوصية الفردية تلعب دوراً مؤثرا فيه، ولكنه يبقى فن المكان أيضاً، بكادره وجمهوره وعين السلطات التي كانت في كر وفر معه دائما. لحين ما اكتملت صورة هذا المسرح في الستينات، وتألقت في السبعينات، ثم بدأ العد التنازلي خلال الحروب التي تتالت على العراق إلى يومنا، يحاول سامي عبد الحميد جمع شتات مقالاته وترجماته عن تلك المسيرة، رابطاً بينها وبين المسرح العربي ونماذجه اللافتة، وتأثيرات الحركات والموجات العالمية التي توزعت رواده بين تعريب وتعريق وتقليد. بدايات المسرح العراقي الفعلية نمت في اتجاهين، اتجاه أكاديمي تخرجت منه أجيال من الدارسين لهذا الفن وتطبيقاته، وأسهم فيه أساتذة درسوا الدراما في جامعات الغرب والدول الاشتراكية، فرفدوا أكاديمية الفنون الجميلة والمسارح الأهلية والحكومية بأسماء مهمة من الممثلين والمخرجين. والرافد الثاني كان يتمثل بنشاط أهلي توج بظهور فرقة المسرح الفني الحديث 1952 التي بدأت على يدها المسيرة الناضجة لهذا المسرح، وتشكلت بجهد خيرة مخرجي العراق وممثليه وأكاديميه فضلا عن مؤلفي نصوصه. ولكننا لا نعثر في كتاب سامي عبد الحميد هذا، نصا عن تاريخ تلك الفرقة الرائدة التي قدمت أهم المسرحيات وواكبت الموجات العالمية والعربية في عروضها المتنوعة، وضمت أسماء مرموقة في المسرح العراقي، والكثير من الشباب الذين بدأت تجاربهم الأولى على خشبة "مسرح بغداد" التابع إلى الفرقة. غدا مسرح بغداد الآن بناية مهجورة، بعد ان اضطرت الفرقة في الثمانينات إلى التوقف القسري. سامي عبد الحميد يشير إلى أعمال فرقة المسرح الفني الحديث التي أسسها وترأسها ابراهيم جلال،، فكلها تجارب وعلامات في المسرح العراقي، ولكنه لا يتطرق إلى تاريخها، في حين يكتب عن مسيرة الفرقة القومية التي ارتبطت بالدولة، حيث أوكلت إليه مهمة تكوينها في البداية. استقطبت هذه الفرقة أعضاء من الفرقة الأم اضافة الى أسماء أخرى، وقدمت مسرحيات مهمة، لحين ما حولتها سلطة البعث إلى مسرح تجاري أسوة بالمسارح الجديدة التجارية التي نشأت في الثمانينات والتسعينات واستطاعت توجيه ضربة موجعة إلى الفن المسرحي العراقي. ويدلنا سامي عبد الحميد في كتابه هذا على معالم تلك الحقبة المظلمة في حياة المسرح العراقي، وهو يكتب عن المسرح التجاري، حيث كان من أوائل من نشر عنه نهاية الثمانينات في المجلات العراقية. لعل في كتاب سامي عبد الحميد هذا الكثير من الاسترجاعات التي يتابع فيها المسرح العراقي في منحاه الأكاديمي الذي أفاد أساتذته من دراساتهم في الخارج، وبينهم المؤلف نفسه الذي تخرج من مدرسة الدراما البريطانية العريقة " رادا" وترجم كتبا ونصوصا وملخصات لفن الإخراج والتمثيل. يربط سامي عبدالحميد بين تنامي الخبرة العملية والجهد النظري في المسرح العراقي، وتأثيراته في خلق مؤلفين عراقيين، واتبّاع المخرجين طرائق جديدة في الابتكار، ويرى ان مجلة " السينما" التي صدرت ببغداد العام 1955 أول مطبوع تولى نشر الدراسات والمقالات المترجمة عن المسرح، اضافة إلى ترجمات العراقيين الكتب الغربية التي تختص بهذا الفن. ثم كان لمجلة " السينما والمسرح" المصرية في الستينات تأثيرات مباشرة، اضافة إلى المجلات الأدبية العراقية التي تولت نشر مواضيع عن المسرح. ويرى ان ترجمة النصوص المسرحية العالمية التي صدرت عن مصر والكويت، ساعدت في تثقيف الناس بحركة المسرح. وفي محاولة الفنانين العرب خلق شخصية وطنية للمسرح، يبحث المؤلف عن فكرة التراث والمعاصرة التي شاعت في ثقافة الستينات والسبعينات المسرحية، وانتجت مسرحيات تستقي من التراث العربي مادتها التأليفية وطرق اخراجها. وفي عرضه لما يسميه الملامح العراقية في المسرح، يرى ان هذا الاتجاه ظهر في محاولات تقريب الجمهور من الميثالوجيا العراقية والتاريخ ومرويات العراقيين الشعبية. كان المسرح العراقي ورشة استقطبت الفنانين التشكيليين والأدباء، فاسهموا في صناعة نصوصه وديكوره. لم يبق من رواد المسرح العراقي سوى قلة قليلة، فكان يوسف العاني وسامي عبد الحميد من بقايا الشهود الذين كتبوا عن تاريخ هذا المسرح، حيث يجهد شبابه في استعادة صورته الجميلة حتى وإن غاب عنهم تاريخه في خضم النوائب التي تتالت على العراق وثقافته.