بعد 80 عاماً من الصخب والضجيج الاجتماعي يتهيأ حي «جرول» التاريخي إلى مغادرة المشهد المكي، حيثُ تَعمل معدات التطوير على إسقاط آخر أوراق الحي الموغل في القدم؛ ليتحول إلى ضاحيةٍ مُطوّرَة ضمن مشروعات خادم الحرمين الشريفين التطويرية لمكةالمكرمة. ولا زالت ذاكرة الحي التي تفيض بسيل من ذكريات الذين سكنوه تستحضر ملامح حياة الأَمس بماضيها الجميل، وملامحها الفذة التي سكنت جوانح قلوبهم وظلّت محفورةً في ذاكرة الكثيرين، الحيّ الذي كان وعلى مدار 70 عاماً أَحدَ الأسواق المكية المشهورة التي يقصدها أبناء مكةالمكرمة والقرى المحيطة بها، واحتضن تُجار الجُمْلة، وباعَة البهارات والخضار والفواكه، وسوق العلف والحبوب، والحمام، وسوق الماشية الذي تم نقله في التسعينيات الهجرية. وقال «طلال الحساني» - عمدة الحي ومدوِّن للتّاريخ المَّكي- إنّ حيّ جرول يتوسد على إرثٍ اجتماعي واقتصادي قديم، وعُرِف بعدة قبائل سكنته، وعددٍ من العائلات المكية المشهورة، مشيراً إلى أنّ من أهم معالم الحي التاريخية القديمة «بئر طوى» - التي اغتسل منها الرسول صلى الله عليه وسلم - يوم قدومه لفتح مكةالمكرمة ومعه الجيش الفاتح، بالإضافة إلى أول فندق في مكةالمكرمة، ومقر وزارة الداخلية قديماً، ومنزل الوزير عبدالله السليمان وزيرالمالية. وبيّن «عليان أبوسَعادة» - الذي يعتبر شاهد عصر على حلقة جرول - أنّ الحي كان في البدء بستاناً، وأخذ شُهرته بعد نقل سوق الخضار من الحلقة القديمة بجوار الحرم المكي إلى الموضع الحالي، وكان أهل البادية يحرصون على إنهاء كل مستلزماتهم وشراء حاجاتهم منه، والتي لا تخرج عادةً عن المواد الغذائية والبهارات والبن والهيل، ويعودون إلى الجموم، حيث يحتضن «جرول» أقدمَ مواقف السيارات لنقل سكان قرى الجموم ووادي فاطمة. واستعاد «أبوسَعادة» ذكرياته مع الحي، وقال: «كانت الحلقة مظلّةَ تجار الخضار وملاّك المزارع، من مختلف المدن والضواحي والأحياء من وادي فاطمة وهدى الشام وعسفان والطائف، وفي ساعات الصباح الأولى يموج الحي بصخب تجاري، وضجيج لا يسكته إلاّ غروبَ الشمس، وتستقبل الحلقة ما يُعرف بالجَلاَّبة يأتون بمواشيهم من قرى مكةالمكرمة لبيعها، وكان هناك سوق رائجةً للحمير، فيما تتناثر حول هذه الأسواق محلات بيع الحليب البلدي والسمن والفول والأفارقة الذين يقومون بالحلاقة والحجامة». وأكدّ «علي الحربي» - من سكان جرول سابقاً - أنّ الحيّ لا يفصله عن ساحات الحرم اليوم سوى 700م، وأنّ 95% من مبانيه قديمة، والبقية عبارة عن أبراج سكنية بُنيَت مؤخراً لمساكن الحجاج، وأنّ المشروعات التطويرية نسفت مالا يقل عن 80% من الحيّ لصالح إنشاء المحطة المركزية للحرم المكي. ويسهم المشروع في توفير الطاقة لتوسعة السّاحات الشمالية للحرم، والتي سيتم تغذيتها عبر هاتين المحطتين بمنظومة من شبكات التوليد، تزامناً مع توسعة خادم الحرمين الشريفين لساحات الحرم المكي الشمالية، وتطلب إزالة عقارات قدر عددها ب(235) عقاراً في حي «جرول»، نُزعت ملكيتها لصالح محطة الخدمات المركزية، وساهم النزع في خلق فرص استثمارية عقارية جديدة، وأنعش سوق العقار في غرب وشمال مكةالمكرمة. فيما يواصل (1800) موظف ساعات الليل بالنهار؛ للانتهاء من أضخم بنية تحتية لخدمات المسجد الحرام، وعلى مساحة 40 ألف متر تقريباً، ويتضمن المشروع - الذي تتجاوز كلفته العامة 950 مليون ريال - محطات لتبريد أجهزة التكييف، ومحطة توليد الكهرباء للتوسعة الجديدة، وخزانات للوقود والماء، ومحطة عملاقة لمعالجة النفايات وتحويلها إلى مواد صلبة يتم سحبها الكترونياً، ويسهم ذلك في تسريع عمليات النظافة داخل الحرم المكي والساحات المحيطة به، خصوصاً في أوقات الذروة مثل أيام شهر رمضان المبارك وشهر الحج. كما يتضمن إنشاء نفقين أرضيين من أسفل حي «جرول»؛ لتمديد شبكات التبريد والكهرباء، ومسار خاص لسيارات الخدمة بهدف فصل حركة المشاة عن أعمال صيانة وتشغيل خدمات المسجد الحرام، بالإضافة إلى معالجة مياه الوضوء، وإعادة تدويرها من خلال حفظها داخل خزانات عملاقة تتحكم فيها مولدات ضخ عالية الدفع.