تحولت ساحة الفكر والثقافة والحوار إلى ميدان للمنافسة في إحداث الإثارة، وجذب الجمهور. تحولت إلى سباق في إطلاق الأفكار الغريبة، وتنافس حاد في إعلان الآراء المثيرة والأحكام القاطعة وأحياناً الفتاوى التي تجذب التصفيق أو الاستهجان (المهم احداث الإثارة) تحولت ساحة الفكر إلى ما يشبه الحراج حيث ينادي المحرج على بضاعته زاعماً أنها الأفضل. تحول الحوار الفكري إلى حراج يبحث عن الإثارة ويسعى لجذب أكبر عدد ممكن من الجمهور فالأمر تحول إلى منافسة في الشعبية وليس في إحداث تأثير وتغيير يخدم الوطن. في حراج الإثارة نسمع من ينادي ان تزوير الانتخابات واجب وجائز شرعاً، فيرد آخر في ركن بعيد من الساحة ليقول: إن استخدام الفيس بوك حرام. أما الأحكام القاطعة غير القابلة للنقاش فهي القول بأن دمج المعاقين ذهنياً بالمدارس العادية جريمة كبرى. هذا الدمج الذي كان الهدف منه مصلحة المعاق هو اجتهاد علمي، وتربوي وإذا كانت المشكلة الوحيدة هي سلوك الطالب السوي وسخريته من المعاق فإن هذا السلوك السلبي الصادر من الطالب السوي لا يعالج بمعاقبة الطالب المعاق. المهم هو سلامة المبدأ من الناحية التربوية. وإذا كان لهذا الدمج سلبيات أخرى فإن الأمر لا يصل إلى حد وصفه بالجريمة الكبرى. الموضوع يتطلب مناقشة علمية وتربوية وليس أحكاماً قضائية. وفي الساحة من يتكلم باسم الدين والأخلاق، والقيم لكنه عندما ينتقد لا يتقيد بالمعايير العلمية والأخلاقية فتجده يصدر الأحكام بطريقة التعميم، ولا يتقيد بقواعد اللعبة حيث ينتقل من موقع إلى آخر مغيراً في بضاعته حسب رغبات الجمهور فهو يشارك في كل المنافسات، ويفتي في معظم التخصصات، ويظهر في كل الشاشات. إننا أمام ظاهرة كلامية جديدة تختلف عن تلك الظاهرة الصوتية التي ارتبطت بالسياسة، وبالوعود غير المنفذة. الظاهرة الجديدة هي لغة الإثارة، والآراء المثيرة للجدل والتي ليس لها تأثير إيجابي على المستوى الفكري أو العمل. إن العاملين في الميدان، المنتجين الذين يمارسون لغة العمل ينتظرون فكراً يفيد ويثري المفاهيم والتطبيقات ويترجم إلى أرض الواقع. لكن ما يصلهم لا ينتمي إلى شيء من ذلك. المعلم، والطالب والموظف والعامل والمهندس والطبيب إلخ ينتظرون فكراً علمياً يستفيدون منه في زيادة المعرفة، والتحفيز لمزيد من اكتساب المهارات، ومزيد من الإنتاجية. ينتظرون فكراً يفتح أمامهم مجالات الإبداع لكن الساحة تخطفها الأصوات العالية، والأحكام القاطعة والآراء (المستعجلة) التي تخشى أن يفوتها قطار الإثارة. ولكن لا بأس فمن يفوته قطار الإثارة سوف يجد موضوعات تحتفظ دائماً بسخونتها وإثارتها مثل قضية عمل المرأة والاختلاط والابتعاث، وتهنئة غير المسلمين بأعيادهم وغيرها من القضايا التي تشغلنا بالجدل عن العمل الحقيقي المنتج كأنما اختزلنا قوى وقدرات وإمكانات المجتمع في مهارة الكلام وتركنا ساحة العمل للآخرين.