ولد عباس محمود العقاد في عام 1889م وتوفي رحمه الله في عام 1964م بعد أن أضاف للمكتبة العربية أكثر من سبعين كتاباً، وتسعة دواوين شعرية، ولم يكن مستواه التعليمي يتجاوز الشهادة الابتدائية، ولكنه رغم ذلك ثقف نفسه بنفسه، وعكف على القراءة المتأنية، فكان يقضي في مكتبته ما معدله أربع عشرة ساعة يومياً، ويقرأ في اليوم ثلاثة كتب تقريباً، وكان العقاد من أقدر كتّاب القرن العشرين على التفكير، فقد تجد له في صفحة واحدة عدداً من الأفكار، بينما تقرأ لغيره عدداً من الصفحات ولا تخرج إلا بفكرة واحدة، وقد كان معظم إنتاج العقاد قد خرج في إبان الحكم الملكي الذي قامت فيه حكومة دستورية، وأحزاب متعددة، وهامش حرية كبير، وكانت مصر على وشك الوصول إلى مرحلة الإقلاع التنموي، دخل العقاد السجن وقضى فيه تسعة أشهر، وخرج منه ليزور قبر سعد زغلول ويلقي هناك قصيدة شعرية يعبّر فيها عن أنه خرج من السجن ليولد في ساحة المجد: قضيتُ ببطنِ السِّجنِ تسعةَ أشهر وها أنا ذا في ساحةِ المجدِ أولدُ ولما تولى جمال عبدالناصر الحكم تراجعت الحريات، وتحول الحكم إلى حكم دكتاتوري في حقيقته، فيه حرية وديموقراطية في ظاهره، سخَّر الإعلام للتطبيل له، وتزييف وعي الجماهير، والإعلام يشكل خطورة كبيرة عندما يزيّف الأحداث من جهة، وعندما يسكت عنها من جهة أخرى، وفي 25 يناير من 2012م قامت في مصر ثورة شعبية ناجحة بخسائر قليلة جداً، وتم انتخاب رئيس للبلاد لأول مرة في تاريخها القديم والحديث، وكان قد مضى على وفاة العقاد ثمان وأربعون سنة تقريباً، ولكن عندما نقرأ كتابه (الحكم المطلق في القرن العشرين) نجد أنه يصف الكثير مما يجري في مصر اليوم، وما جرى فيها في عهد الدكتاتوريات العسكرية السابقة، فنحن نرى أن الديموقراطية هي التي أدت إلى وصول الرئيس محمد مرسي إلى الحكم، والديموقراطية نظام كان ينادي به الناس بجميع فئاتهم وتوجهاتهم، بل إن الديموقراطية أصبحت مقدسة في بعض البلدان، كما كان هنا تقديس للحكم الكنسي من قبل، ولكن بعد أن تم تنصيب الرئيس المنتخب الجديد رأينا الخلافات والحركات والمظاهرات، والاعتصامات، والإضرابات، والتحزبات، وغيرها من أدوات تفتيت المجتمع وتضييع جهوده ومقدراته، وكأن العقاد ينظر إليها فيقول: (أصبحت الديموقراطية عقيدة مقدسة في العرف الشائع فجاءها الخطر من هذه الناحية في عصر الشك والسخرية من جميع (المقدسات).. وسمع الشاكون والساخرون بهذه (المقدسة) الجدية فعلموا أن هناك شيئاً طريفاً يظهرون فيه براعة التفنيد وقدرة التصغير والتقييد! فأسرعوا إليه في جد ووقار وأعنتوا أنفسهم كثيراً ليقولوا إن الديموقراطية شيء لم يهبط من السماء وأن القداسة هنا مجاز لا حقيقة له في العلم والاستقراء...) لقد رأينا أناساً لا هم لهم إلا تصغير إنجازات الحكومة وجحدها أحياناً، ورأينا كيف جرت محاسبة الرئيس بعد مائة يوم، وهم الذين صبروا على من سبقه ثلاثين عاماً، ورأينا كيف تجري محاولات التقييد والتضييق والانتقاص والتشكيك، لماذا يحدث كل هذا النقد والتصغير والتقييد؟ يجيب العقاد قائلاً: (إن عيوب الحكومة الشعبية مكشوفة ذائعة لاستفاضة علاقاتها واشتراك المئات والألوف في دعواتها وأعمالها. فليس لها حجاب من الفخامة والروعة كذلك الحجاب الذي كانوا يسترون به الحكومات المستبدة ويتعاون فيه الكهان والمداح والبلاطيون على التمويه والتزويق، وخليق بهذا التكشّف أن يغض من فضائلها بعض الشيء ويرسل عليها ألسنة الثرثارة والفضوليين ومنلا ينظر إلى عواقب الكلام). لقد كان على حكم الاستبداد العسكري هالة من التعظيم والتفخيم، ويشارك في ذلك وصوليون من مشارب عدة يقومون بالتزويق والتمويه ومن ثم تزييف الوعي، وتضليل العامة، ويواصل العقاد حديثه حول هذا الجانب فيقول: (ومن الأسباب المصطنعة أن نقد الديموقراطية يرضي غرور تلك الفئة التي تحب أن تتعالى على (الشعبيات) لما في ذلك من الامتياز والادّعاء، ومنها أن المستبدين الطامعين في رجعة الحكم القديم يسعون سعيهم سراً وجهراً لتشويه كل نظام غير نظامهم، وتأليب الناقمين على الحكم الحديث، ولا بد في كل حكم من راضين وناقمين، ومنها أننا في زمن تتوالى فيه المخترعات ويسألون فيه أبداً عن أحدث الآراء وأغرب الأخبار).. إن الكتاب مليء بالصور والحقائق المنطقية عن الديموقراطية والاستبداد، ومقارنة كل نظام بالآخر، والحديث عن أدواته في تمويه الأعمال وإخفاء الحقائق والتحايل على الغرائز والشهوات. لقد جاء في الأثر أن الله إذا أحب قوماً رزقهم العمل، وإذا كره قوماً ابتلاهم بالجدل، ومن يتابع الساحة المصرية يرى أن الغالبية مشغولة بالجدل، تجد ذلك في المجالس، وفي المواقع الإلكترونية، وفي الصحافة، وفي القنوات الفضائية، وفي كل مكان، ولن يصلح حال المصريين إلا إذا انتقلوا من الجدل إلى العمل، ويجب أن لا ينتظروا من بذرة بذروها اليوم أن تنبت وتثمر في فترة وجيزة، إن نهضة الأمم تحتاج إلى التكاتف، وإلى الصبر وإلى التعاون، وإلى إبداء الرأي البناء الذي يجمع ولا يفرّق، ويبني ولا يهدم، إن في نهضة مصر وتقدمها نهضة وتقدم لجميع الدول العربية، وخاصة دول الخليج، فقد كانت المملكة العربية السعودية هي أول دولة يزورها الرئيس المنتخب، وصرح أكثر من مرة أن أمن الخليج من أمن مصر، وأن المملكة تعني للشعب المصري الكثير فهي مهوى القلوب، وفيها الحرمان الشريفان، وقبلة المسلمين، ومنها شع نور الإسلام شرقاً وغرباً، وفق الله مصر وشعبها إلى ما يحبه ويرضاه، ورحم الله الكاتب العملاق عباس محمود العقاد. ------------ أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام