لم يكن هناك عمل أدبي إنساني يعبر عن أهوال البحر ومفاجأته وعذابات الصيادين وآهاتهم أكثر من رائعة الأديب العالمي "أرنست همجنوأي" (العجوز والبحر)، حينما شخّص حال الصياد العجوز ومعاناته في مكابدة الأمواج العاتية، وهو يبحث في باطن المجهول عن قوت رزقه اليومي.. وكأنه قد تلبسه "جني اليم"، وهو يعزف كلماته عزفاً عن هذه العذابات ويعذر في ذلك من يعشق مشاق المهنة الممتعة المتعبة الصيد حينما تنساب كلمات فيروز العذبة إلى مسامعه وهي تردد "من يعشق البحر.. لا يخشى من الغرق". صيادو جازان هواة بمسمى محترفين، عباراتهم شاعرية مرهفة الأحاسيس؛ فقد سكبت معاناة مهنتهم في انفسهم أجمل فضائل الصبر، وسكبت في انفسهم تبراً ساطعاً من أجمل عبارات الفن والأدب، بسطاء لا ترقى طموحاتهم أكثر من الستر والعافية، وتأمين قوت أبنائهم، يرفعون أصواتهم بالشكر أكثر مما يرفعون بالآنات والضجر، قد غلب على أمرهم كثيراً واصبحوا غرباء في برهم وبحرهم، بعد أن تكالبت العمالة الوافدة عليهم وعلى طرقهم حتى في أرزاقهم وعانت في البحر إفساداً ولا حقتهم التعليمات الجائرة التي بخستهم حقهم وطبيعة عملهم التي توارثوها أباً عن جد، وفسحت المجال لسفن الصيد الكبيرة لتزاول بوسائلها المتقدمة صيداً جائراً، إلى جانب أنها أضرت بالأسماك الصغيرة، وأفسدت البيئة البحرية بصخورها وشعابها المرجانية وأشجارها وأصبح مد البحر وجزره مرمى لمخلفاتها التي أحدثت مخلفات وروائح كريهة كما لاحظته "الرياض" خلال جولتها مع هؤلاء الصيادين البسطاء في البر والبحر والجزر التي يؤون إليها في سفرهم للإبحار والصيد فكانت الصورة وكانت الأصداف والهدب وملح البحر ورطوبته التي رسمت أخاديد من الحزن والوجع على جباههم السمراء وابتساماتهم البسيطة أبلغ المعاني. شيخ الصيادين وصف "حمود الشيخ" الملقب ب"شيخ الصيادين" المهام الملقاة على عاتقه قائلاً: "أعمل على تحقيق متطلبات الصيادين سواء كانت جماعية أو فرعية، وتعريفهم لدى الجهات الداعمة كالبنك الزراعي والضمان الاجتماعي وإحضار الصيادين لدى المحاكم عند مطالباتهم للغير أو العكس والسعي نحو تحقيق مصالحهم ومقابلة المسئولين نيابة عنهم"، مشيراً إلى أن عدد الصيادين بالمنطقة يصل إلى 3500 صياد وجميعهم لديهم رخص صيد بحرية تستخرج من "الثروة السمكية"، وكذلك معظمهم متفرغون ولا دخل لهم غير هذه المهنة أو من الضمان الاجتماعي، مبيناً أن طرق الصيد هي المجرور والجلب والسنارة، ويستغرق مكوثهم في البحر بحسب الطريقة فالجلب يستغرق من يومين إلى 4 أو 5 أيام، والشبك من يوم إلى يومين أو ثلاثة، وطريقة المجرور يأخذ مدة يوم أو نصف يوم فقط، موضحاً أن الصيادين يستقلون قوارب تقليدية في الصيد متجهين إلى الجزر القريبة من جازان مثل جزر "أحبار"، و"شرع"، و"راكة"، و"آمنة"، و"أم الكتف"، وإذا ذهبوا أبعد فإلى "أم الأصيل"، و"الحصر"، ومن ثم يعودون بعد ذلك لبيع مالديهم من كميات من الأسماك في حراج الأسماك، مبدياً تذمره من "الصيد الجائر"، واستخدام بعض الشركات والأجانب طرق صيد تضر بالبيئة مثل "الهربوت" و"الشن شله"، مطالباً وزارة الزراعة وفرع "الثروة السمكية" بالمنطقة بتكثيف الرقابة على مراكب الصيد التي تتجول بحرية في سواحل المنطقة إلى جانب دخولها "المحمية" وهي موطن توالد الأسماك، مما يستهدف أمهات الأسماك، وأما صغارها فيتخلصون منها برميها في البحر بعد نفوقها، مضيفاً أن شركات الصيد والعمالة الوافدة تسببت في تكسير الشعاب وتخريب ما يسمى ببيت السمك والمحدد في ال"GPS" وهو الذي يعرفه جميع الصيادين الذين بنظام الصيد وأخلاقياته. شركات الصيد أثرت على جزيرة «آمنة» وأبدى امتعاضه من قرار حرس الحدود القاضي بمنع الصيادين من اصطحاب ابنائهم في مهنة الصيد، بمبرر أنهم يعملون في وظائف حتى وإن كانت بسيطة على بند الأجور وما شابهها، قائلاً: "من معاناة الصيادين أنهم لا يستطيعون الذهاب للبنك الزراعي إلاّ بعد إحضار كفلاء وأن يكون لديهم رصيد بنكي، ومعظمهم أصلاً مديون للبنك"، مشيراً إلى أن سعر "القارب" المخصصة للصيد تصل قيمتها من 50 إلى 120 ألف ريال. وذكر "أحمد الجعفري" -صياد- أنه وبعض زملائه الصيادين متوقفين عن الصيد منذ خمسة أشهر، بسبب سوء أحوالهم المادية، بعد قرار "حرس الحدود" و"إدارة الثروة السمكية" بمنعهم من مزاولة الصيد البحري مطالباً بسرعة النظر في أحوالهم المادية الصعبة التي يأملون معها أن يسمح لهم بممارسة الصيد دون قيود تفرض عليها لسبب أو آخر. جولة الشاطيء وفي ذات صباح باكر لبّت "الرياض" دعوة الصيادين بزيارة "المرفأ" الخاص بالقوارب، حيث علا محياهم ابتسامات صادقة لم تمحها سوى تلك الخطوط المتجعدة على جباههم السمراء، ولحاهم التي حولها البحر بملحه وأهواله إلى خطوط بيضاء وكأنهم قد بلغوا من العمر عتيا، كما هو حال "محمد عقيلي" الذي تعرض لإعاقة تسببت في بتر كامل قدمه لم تمنعه من ممارسة عشقه في الذهاب إلى الصيد، حيث ذكر أنهم كانوا يصيدون في جزر "البنات" و"بكلان" و"البيضاء" و"الفشت" و"أطوار" و"زيحه" و"دي" و"سهر"، إلاّ أن منعهم من تجاوز الحدود الإقليمية جعلهم يستقرون في الجزر القريبة التي يزورونها يومياً مثل "أم الكتف" و"أحبار" و"آمنة"، متنهداً وهو يقارن بين وضع الأمس واليوم حيث تزايدت الشركات الضخمة التي تستخدم إضاءة غازية في الليل بحيث تتجمع الأسماك في منطقة الضوء ويصطادون كمية كبيرة دفعة واحدة، ثم يفرزونها ويلقون الأنواع التي لا يرغبونها والأسماك الصغيرة في البحر، متذمراً من تحديد الفترة الزمنية للصيد ب24 ساعة، بينما كان سابقاً من أسبوعين إلى ثلاثة ثم قُلصت إلى 72 ساعة، وإذا تأخرت تسحب الرخصة. بلغيث يروي للزميل «الجبيلي» تفاصيل 55 عاما في الجزيرة أزمة وقت وذكر "محمد عبدالسلام عبدالله" موقفاً تعرض له في رحلته للصيد، حيث واجه ذات يوم ظروفاً طارئة في الأحوال الجوية اضطرته للاتصال على قيادة "حرس الحدود" ليبلغهم أنه يحتاج إلى 24 ساعة إضافية بسبب عاصفة جوية منعته من الصيد، إلاّ أن "حرس الحدود" طالبوه بالعودة فوراً، مطالباً بزيادة الوقت الممنوح للصيادين، فيما لم يستطع "محمد عباس" من تدريب ابنائه على مهنة الصيد إلاّ بعد ان يستخرج رخصة نزهة بحرية، مطالباً الجهات المسئولة بالتفاعل بشكل أكبر في الحالات الطارئة. الاستعداد لرحلة صيد شاقة ثقافة صيد وأشار "أحمد الجعفري" إلى أن هناك ثقافة تعاون بين الصيادين، حيث يتبادلون الاهداءات فيما بينهم، حيث إن للصيد البحري أصوله وفقاً لما قاله "حمود الشيخ" الذي ذكر أن هناك مواقع قريبة من الجزيرة، إلاّ أنهم لا يقدمون على الصيد فيها أو رمي شباكهم بحسب الطحالب والشعب المرجانية حتى لا نتسبب في إتلافها، عكس ماتعمله شركات الصيد حالياً، مبيناً أن هناك أوقاتاً للصيد خاصة في المساء، قائلاً: "كنا في الماضي نعرف وقت ظهور السمك واليوم البوابير التي انتشرت في البحر هي في الحقيقة أداة الجريمة المستخدمة في قتل بيئة البحر وتكاثر الأسماك وكنا نرى السمك يسير أمامنا فلا أحد يستطيع أن يقدم على الصيد إلاّ في أوقات معينة وهذا مايؤكد أن للصيادين عرفاً وقانوناً ونظاماً"، مجدداً المطالبة بإتاحة الفرصة لابنائهم العاطلين عن العمل بمزاولة الصيد، مبدياً استيائه من وجود صخور زلقة وصنادل وسفن بحرية متعطلة قبالة الشاطيء وقرب المرسى، مما يشكل خطراً على قواربهم، لا سيما في الفترة المسائية. يجوبون الجزر والبحار بحثاً عن الأسماك رجل الجزيرة وبعد رحلة استغرقت ما يقارب 30 دقيقة إلى جزر "أحبار" و"آمنة" و"أم الكتف" ابتلع خلالها ممتطين القارب كميات لابأس بها من الملح السائل الذي قدمته الأمواج الهائجة في الطريق إلى رجل الجزيرة "بلغيث أحمد عبدالله صيني" الذي يبلغ 75 عاماً، الذي ذكر أنه مكث في هذه الجزيرة 55 عاماً حيث يقضي يومين لدى أهله ثم يعود إلى الجزيرة لصيد أجود أنواع الأسماك المطلوبة ك"الهامور" و"الشعور" و"البياض" و"الكشرة"، وعن ذكرياته روى قصة عندما كان في الجهة الأخرى من الجزيرة واتجاه الهواء "شمالي" وبينما هو يهم في طهي العشاء انفلت قاربه باتجاه البحر وبقي وحيداً حتى صباح اليوم التالي حتى أحضروا دورية "حرس الحدود" قاربي الهارب، ومن الطرائف أيضاً أنه كان جائعاً في الجزيرة، والتقى بمتنزهين من جنسيات شرق آسيوية، فطلب منهم طعاماً استساغ مذاقه، مكملاً: "عندما أعجني طعامهم، وأكلته، أضافوا لي كمية أخرى، وسألتهم عن نوع الطعام فأجابوني موء موء، يقصدون أن لحم بقر إلاّ أني اكتشفت لاحقاً أنه لحم كلاب"!. ديوانية الصيادين جمعية الصيادين ولاحظت "الرياض" خلال جولتها تواجداً كبيراً من العمالة الأجنبية الذين يمارسون الصيد لفترات طويلة، كما أن جزيرة "آمنة" و"أم الكتف" ينبعث قربها روائح كريهة بسبب مخلفات شركات الصيد الكبيرة الذين يرمون كميات هائلة من الأسماك الصغيرة والكائنات البحرية دون أن يكون هناك من يردعهم، ووجد أن هناك أطفالاً مع بعض ذويهم في جزر أخرى، وأفاد أباؤهم أنهم جاءوا بهم لتعليمهم مهنه الصيد وعلى أنهم متنزهون حتى يسمح لهم "حرس الحدود" بالسير، مطالبين بإيجاد حلول مناسبة لهم في أداء وظيفتهم التي يقتاتون منها وأنهم أولى من عشرات العمالة الأجنبية أو المتخلفين لنظام الإقامة الذين يبيعون أسماكاً فاسدة لاتصلح للاستهلاك الآدمي، وأخيراً تساءل الصيادون عبر "الرياض" عن الجهة المعنية بحماية الصيادين وتنظيم عملهم، بسّن الأنظمة التي تحافظ على مصدر رزقهم وعلى الثروة السمكية في آن واحد، مقترحين إنشاء نقابة أو جمعية متخصصة تحمي شئونهم وتحمل على عاتقها توعيتهم وتدريبهم خاصة في كيفية التعامل مع الأزمات أثناء الرحلات البحرية. صيادون يأملون أن يتاح لهم المجال في البحث عن لقمة عيشهم بزوغ الصباح على الصيادين في الجزيرة تذمروا من الصخور قرب مرسى قواربهم الصيني يروي حكاية «لحم الكلاب» و»القارب الهارب»