كي تنجح في تأسيس بيئة علمية ناجحة وصحية لابد أن تنجح في ترسيخ المفهوم الصحيح للبحث العلمي والذي تحكمه أخلاقيات ومبادئ معينة، تحفظ للباحث والمشارك حقوقهما، وتحترم خصوصية المشاركين وتتبع القوانين التي تحكم سير الأبحاث العلمية. فإذا فهمت واقتنعت أن البحث العلمي له منهجية واضحة يجب أن تسير عليها وأن له أهدافاً واضحة أهمها المعرفة فإنك ستعرف أن طريق المعرفة هذا ليس بالسهل وأنه يحتاج لوقت حتى ترى ملامح نهايته وبالتالي فإنك لا تستعجل لمجرد أنك تريد أن تلحق بالركب بأي وسيلة كانت لكنك تمضي قدماً مستعيناً بالخبرات التي تملكها أو تتعاون معها لتستفيد وتفيد. البحث العلمي التطبيقي مثلاً، يحتاج لضخ أموال كثيرة نظراً لتطور التقنية وتغير التكلفة فكي تنافس لابد لك من توفر المال الذي يساعدك للحصول على أحدث الأجهزة والبرامج وأيضا الاستعانة بالخبرات التي تساهم في التدريب ونقل التقنية. مثلا حين تكون من أهدافك نقل ثقافة البحث العلمي وتأسيس قاعدة سليمة للبحث العملي كي تنافس وتكون موجوداً على الخريطة العلمية فإنك ستستثمر في الإنسان وليس فقط في الأجهزة والمباني. هذا الاستثمار البشري يأخذ وقتاً ولا يأتي بسهولة، فنحن حين نتحدث عن الأبحاث المعملية الدقيقة فإننا نحتاج لتأهيل المهارات الفنية القادرة على التعامل مع الأجهزة المعملية والقادرة على إجراء التجارب المعملية باستقلالية ونحتاج لوجود العقول المفكرة التي تدفع بالبحث العلمي للأمام من حملة الشهادات العليا. فأنت هنا تستثمر في الإنسان من خلال تدريبه وتأهيله وتعليمه وتستثمر في المكان من خلال تجهيزه بتقنيات العصر. لا يمكنك أن تقدم أحدهمها على الآخر ولا يمكنك أن تركز على جانب واحد دون آخر لأن المعادلة في هذه الحالة تكون ناقصة أو غير سليمة وبالتالي نتائجها ستكون خاطئة. يمكنك أن تستثمر في أحدث الأجهزة وتستقطب الأيدي الفنية العاملة من بلاد آخرى لتشغيل هذه الأجهزة لكن مالم تستغل الفرصة لنقل الخبرة لأبناء البلد وتعليمهم وجعلهم يستفيدون من هذه الخبرات فإنك ستصل لمرحلة تصاب فيها بالشلل وتجد نفسك مكانك سر لأنك انشغلت عن الهدف الرئيسي وهو تأسيس قاعدة قوية للبحث العلمي. هناك نماذج غير سوية تجدها في هذا المجال تملك مفاهيم خاطئة حول البحث العلمي، فمثلا في بيئات معينة انتشرت حيلة مقاولات الباطن والتي يستخدمها بعض الأفراد كطريقة سريعة للحصول على الترقية العلمية، ويمكنك بسهولة أن تكتشف ذلك من خلال نوعية البحث العلمي الذي يركز على معضلة علمية لا علاقة لها ببيئة الباحث ولا تمت له بصلة. كما أن البعض يمارس حيلة التدوير العلمي لزيادة عدد الأبحاث المنشورة وهذا أمر يحذر منه الجميع. وهناك أيضا مافيا النشر حيث يستغل البعض مكانتهم الوظيفية لفرض اسمهم على أي بحث علمي يقوم به مرؤوسوهم أو طلبتهم حتى لو لم يشاركوا فعليا في البحث العلمي مخالفين بذلك أبسط قواعد النشر وأخلاقيات البحث العلمي. وهذه كلها ممارسات خاطئة تحدث حين تكون الأهداف في غير محلها وحين يبحث الفرد عن وسيلة سريعة للترقية العلمية. وحين يستسلم لضغط المنافسة وهو ضغط شديد هنا تختلط الأهداف ويحدث الفشل في صناعة بيئة علمية سليمة تنتج وتعلم وتفيد، لذلك فإن تصحيح المفاهيم حول البحث العلمي وترسيخ فكرة الارتقاء بالنوعية والإنتاجية والاستثمار في الإنسان والعقول وتحديد الأهداف هو المطلوب لبناء بيئة عملية صحية ذات مصداقية.