ينظر البعض للبحث العلمي على أنه من الأمور الرفاهية او الكماليات التي يمكن أن تؤجل وليس بالضرورة أن تكون على قائمة الأولويات. مثلا يختفي مفهوم البحث العلمي عن بعض البرامج الدراسية في الجامعات والكليات؛ حيث تعتمد برامجها بشكل كبير على الاختبارات التقييمية والأسئلة المباشرة. فمن غير المعقول أن يتخرج طالب جامعي بدون أن يعرف كيفية فهرسة المراجع، أو كتابة إطار بحثي أو وضع أسئلة علمية يحاول الإجابة عنها أو حتى قراءة ورقة بحثية قراءة نقدية اختيارية متمعنة تقيّم المعلومة وتبحث عن مصدرها. حتى في المجالات المعملية تأخذ التجارب المعملية في بعض الكليات العلمية التطبيقية دورا ثانويا، ويفضل الأستاذ أو المسؤول عن المادة العلمية أن يعطي المعلومة نظريا بدلا من ان يشغل نفسه بالتجربة الفعلية متحججاً بعدد الطلبة الكبير، أو قلة الامكانات أم عدم وجود المواد المطلوبة أو الاجهزة المتطورة. أذكر حين عودتي من دراستي للدكتوراه وجدت ان الطالبات في أحد الأقسام العلمية يدرسن تجارب معملية كانت تدرس من عشر سنوات مضت! فرغم التقدم العلمي والتطور التقني مازالت الأمور كما هي محلك سر، والمبررات كثيرة وغير مستساغة منها كثرة عدد الطالباتو قلة الموارد البشرية من فنيي معامل وباحثين بينما الحقيقة هي أن كثيرين يفضلون البقاء في الإطار الذي تعودوا عليه، وفي الدائرة المريحة التي يعرفونها بدلا من التغيير أو التجديد، والضحية هنا هو الطالب الذي تتوقف حصيلته العلمية المهنية في تخصصه عند قرن مضى وليس على اعتاب عصر قادم تشكلت ملامحه. البحث العلمي التطبيقي المتخصص مكلف جدا، لكنه مهم جدا فأنْ تملك الأدوات التي تساعدك على فهم المعضلات العلمية وعلى الاستكشاف وأن تخلق جيلا يعرف قيمة المعلومة، ويستطيع تقييم الأدلة التي بنيت عليها هذه المعلومة ويملك القدرة الاستنتاجية فهذا هدف بحد ذاته كي تكوّن مجتمعاً فعالًا في حضارة متجددة. وخلق هذه البيئة يحتاج المال والعقلية التي تملك الرؤية لتأسيس ثقافة اجتماعية تقدر أهمية البحث العلمي ومخرجاته وفائدته. فعلى سبيل المثال ليس كل بحث طبي سينتج دواء يقضي على المرض لكنه قد يعطي معلومة صغيرة تساعدنا على فهم المرض، وتقربنا من علاجه أو التعامل معه، وليس كل بحث اجتماعي عن ظاهرة ما سيقضي عليها لكنه سيوثق نشوءها ومسبباتها، وربما يساعدنا على تكوين فكرة جيدة عنها. ولايمكنك أن تنظر للبحث العلمي نظرة اقتصادية ضيقة الأفق تعتمد على الربح السريع والخسارة فالاستثمار في العقول هو استثمار طويل الأمد وليس مغامرة ربحية خاطفة..