بعد عقود من المضي في تنفيذ سياسة التعاقد مع شركات ومؤسسات القطاع الخاص لتشغيل المستشفيات في أنحاء المملكة، ثبت لوزارة الصحة مؤخراً أن تلك السياسة قد أهدرت ملياراتها، وقدّمت للمواطنين في نهاية الأمر مباني تسمى مستشفيات تنشط داخلها حالات معالجة أمراض الزكام والكحة، وبعض الحالات الإسعافية البسيطة..وحين بلغ التدهور ذروته، اقتنع مسؤولو وزارة الصحة بأنهم يسلكون الطريق الخطأ.. وإن كان هذا الطريق عالمياً يعد أحد أنظمة إدارة المستشفيات في بعض الدول التي قد نجح فيها هذا النظام بالفعل، إلاّ أنها التجارب المحلية التي تختلف دائماً عن مثيلاتها عالمياً تحت وطأة الفساد والبيروقراطية ومعطيات الإحباط التي أبقت البلاد في المؤخرة قياساً بنظيراتها في المجال الصحي. كان العام 2007م عاماً لافتاً في مسيرة وزارة الصحة ممثلة بالإدارة العامة لنظام العقود والتشغيل، ففي ذلك التاريخ خرجت الأصوات التي تطالب بالتحول إلى نظام التشغيل الذاتي؛ كإنقاذ للوضع الذي بات بائساً. ويقول المطالبون بهذا التحول آنذاك أن الشركات والمؤسسات التي تتعاقد معها وزارة الصحة لتشغيل مستشفياتها، ما هي إلاّ شركات تشغيل وصيانة، حيث كانت تستقدم عمال النظافة وفنيي التكيف، وعهد إليها فجأة بأن تتولى صحة المواطن..فراحت تحت رغبة الربح والتوفير للتعاقد مع أقل الأطباء رواتب وأضعفهم خبرة، وكذا الفنيين، ليقدموا الخدمات العلاجية المجانية التي يكفلها النظام الأساسي للحكم للمواطنين. وما بين إهدار المليارات، وتراجع الخدمات العلاجية المشوبة بالأخطاء الطبية والعجز الحاد في الأسرة والمواعيد التي بعضها بات سنوياً، ومابين تحول سياسية إدارة المستشفيات إلى نظام التشغيل الذاتي، بدأت بوادر مشجعة في نظر البعض، فمستشفى في مدينة نجران الحدودية في أقصى الجنوب السعودي وبعد قرابة الثلاث سنوات من العمل بنظام التشغيل الذاتي، يتهيأ هذا العام للحصول على جائزة ال (JCI) الأمريكية وهي أعلى شهادة تصنيف طبي في العالم لتقييم المستشفيات، وتبرز أسئلة كثيرة عن قناعات التحول، ومسوغاته نحو نظام التشغيل الذاتي، وتمتد الأسئلة لتثير الضمانات المتوفرة من أجل حصانة هذا النظام من مخالب الفساد المالي الحكومي المستشري في أغلب الوزارات. المواطن ينتظر علاجاً سريعاً وخدمة أفضل وتبدو ميزانية وزارة الصحة ليست مثقلة بالصرف على مستشفياتها الحالية والبالغ عددها 66 مستشفى في أنحاء المملكة، فحسب تقديرات أولية تشير إلى أن الوزارة تصرف قرابة ال 100 مليون لكل مستشفى، فإن ذلك يعني أن جميع تلك المستشفيات تكلف قرابة العشرة مليارات ريال فقط من الميزانية المهولة التي خصصت لوزارة الصحة والبالغة 36 مليار ريال!!!. وتدعم هذه الأرقام -التي لم يتسنَ الوقوف عليها بشكل دقيق- ما يذهب إليه المراقبون من أن ما ينفق في المملكة في الشأن الصحي يعد ضئيلاً مقارنة بالدول المتقدمة، فقد أشار مهتمون بالشأن الصحي أنه في أوروبا يصل معدل الصرف السنوي على المريض مابين 8000-10000دولار، بينما في المملكة يصل إلى 350 دولاراً فقط. عمليات اليوم الواحد قلّلت من زحمة الأسرّة في المستشفيات التجربة خير برهان كيف ينظر بروفيسور مختص في إدارة الصحة والمستشفيات لتجربة وزارة الصحة السابقة، وكذا تحولها نحو عملية التشغيل الذاتي، "أ.د.خالد سعد بن سعيد" -أستاذ في إدارة الصحة والمستشفيات- قال:"إن تجربة وزارة الصحة جعلتها تمر بسنوات يفترض أن تجعلها قادرة على الحكم على التجربة من خلال عمليات المد والجزر في هذه العلاقة، مؤكداً على أن عملية التعاقد مع شركات لتشغيل المستشفيات الحكومية لها سلبيات وايجابيات"، مشيراً إلى أن من أبرز تلك الإيجابيات أن الوزارة تتعاقد بمبالغ نقدية ثابتة، ولا تكون مسؤولة عن أي مصاريف استثنائية، بينما أن من أبرز سلبيات هذا التعاقد أن تلك الشركات تعمد إلى التعاقد مع أضعف الأطباء، وأقل الكوادر الطبية تأهيلاً من أجل تزيد ربحيتها من ذلك العقد. د.خالد بن سعيد وأكد أن غياب الجهة الرقابية على أداء تلك الشركات، وعمليات الفساد الواسعة في تلك العقود قد فاقمت من هذه المشكلة وأضاف أن الوزارة تقيّم تلك المؤسسات والشركات من خلال تقييم مدراء المستشفيات الذين قد يكونوا متعاونين مع تلك الشركات تحت ضغوط وإغراءات الفساد أو المجاملة أو المصالح، أو ربما ضعف تأهيل أولئك المدراء وعدم قدرتهم على تقييم الأمور بشكل جيد. وأشار إلى إن عمليات الفساد المالي والإداري والفرص المتاحة بشكل كبير لهذا الفساد في القطاع الصحي قد أدى بالخدمات إلى هذا الوضع. وقال إن التشغيل الذاتي ربما يكون حلاً أنجع من الوضع الحالي؛ نظراً لخطورة الأمر وتدهوره بشكل كبير، فمثلاً حين ترى شركة كانت متخصصة في استقدام عمال النظافة وخدمات الصيانة، أصبحت اليوم تدير مستشفيات وتستقدم الأطباء والفنيين، فإنك حتماً ستقتنع بالوضع المأسوي الذي وصلت إليه الأمور، مشدداً على أنه حين تسلم صحة المواطنين إلى شركة نظافة لتتولى التعاقد مع الأطباء فماذا ننتظر من الوضع الصحي في البلاد؟. بيروقراطية وفساد وحول الأرقام التي تصرف اليوم على الخدمات الصحية، ومقارنتها بمستوى الخدمات اليوم، أوضح "د.ابن سعيد" أن قيمة التعاقدات الطبية لم يفصح عنها بشكل محدد، لكنها بحسب رقم الميزانية المخصص لوزارة الصحة؛ فإن تلك المليارات للأسف لم تثمر عن خدمات صحية ترقى إلى الحد الأدنى من الخدمات الصحية التي يجب أن يكون في دولة غنية. د.عبده الزبيدي وقال:"إن فشل وزارة الصحة في توفير خدمات صحية جيدة للمواطنين جعل الناس يتجهون للعلاج على حسابهم في مستشفيات القطاع الخاص"، مؤكداً على أن فشل الوزارة أدى إلى نجاح كبير للمستشفيات الخاصة؛ نظراً لتهافت المواطنين عليها، مبيناً أن خصخصة خدمات وزارة الصحة، وتحول الوزارة إلى الدور الإشرافي أو أكثر من الدور التنفيذي قد يحل جزءاً من المشكلة، مشيراً إلى أن أغلب القطاعات التي خصصتها الدولة قد تحسن أداؤها بشكل كبير لأنها بدأت تتحرر من براثن الفساد والبيروقراطية. وقال:"إن البيروقراطية والفساد والفشل في الإدارة عوامل أحبطت تأثير المليارات التي تنفقها الدولة على صحة مواطنيها، مؤكداً على أن هناك خللاً في عملية التوزيع الجغرافي للمستشفيات، وخلل في عملية عقود تشغيل المستشفيات"، مشيراً إلى أن الخلل الأكبر هو أن الأطباء تركوا العيادات وتولوا الجلوس على كراسي الإدارة، وهو المنصب الذي لم يُعدوا له، ولم يتم تأهليهم من أجل القيام به. وأضاف:"لقد خسرناهم في العيادات، وشغلوا مناصب أناس متخصصون في الإدارة يمكنهم توليها بكل جدارة"، مؤكداً على أن الفساد والمحسوبية هي التي أدت بنا إلى هذا الحال. تجربة مستشفى نجران حوالي ثلاث سنوات مرت على تجربة التحول للتشغيل الذاتي في مستشفى الملك خالد بمنطقة نجران، كان المستشفى في فترة إدارته عن طريق شركة يتسع ل200سرير، واليوم وفي ظل التشغيل الذاتي المستشفى يتسع ل300 سرير..كيف كانت التجربة؟، وهل هناك تحولات ملموسة على أرض الواقع تبنئ عن بوادر تحسن في الخدمة؟، وماذا عن نجاعة نظام التشغيل الذاتي في سنواته الأولى في مستشفيات المملكة؟. وعلّق "د.عبده الزبيدي" -مدير مستشفى الملك خالد بنجران-أن نظام التشغيل الذاتي بالنسبة للمستشفيات يعد النظام الأفضل في العالم. وقال إن وزارة الصحة قد عمدت في الفترة الحالية إلى التحول نحو نظام التشغيل الذاتي، مشيراً إلى أنه يعد الأنجع في سبيل تقديم خدمات طبية جيدة للمواطنين، مؤكداً على أنه حسب نظام التشغيل الذاتي فإن المستشفى يدرس احتياجاته من القوى العاملة سواء الفنية أو الإدارية أو المستلزمات، وذلك وفق معايير عالمية تخضع عادة للسعة السريرية للمستشفى، مؤكداً على أن المنشأة تبدأ بتنفيذ خطتها وفق الأنظمة واللوائح المعتمدة، والعمل على تأمين احتياجات المنشأة من المستلزمات الطبية والجراحية. وأضاف: نحن في مستشفى الملك خالد بنجران نهدف من تطبيق برنامج التشغيل الذاتي الذي بدأ العمل به منذ قرابة الثلاث سنوات إلى استقطاب الكفاءات الطبية والفنية المتخصصة، كما إن إدارة المستشفى بنظام التشغيل الذاتي تتميز عن التشغيل بنظام عقود التشغيل السابقه، والذي كانت تتولاه شركات خاصة، مشيراً إلى أن الاختلاف بين الأمرين يكمن في أن الشركة المشغلة لديها مهمة أساسية وهي الربح في نهاية السنة المالية، مما يجعلها تتعاقد على توفير كل ما من شأنه أن يقلل التكلفة عليها، ولا يؤثر على ربحيتها، أما الإدارة بنظام التشغيل الذاتي هدفها استثمار الإمكانات المتاحة للوصول بالخدمة إلى أفضل حالاتها، وهو على النقيض من التعاقد مع شركات التشغيل الخاصة لإدارة المستشفيات. وقال:"نحن الآن على وشك الحصول على شهادة ال (JCI) الأمريكية وهي أعلى شهادة تصنيف طبي في العالم لتقييم المستشفيات، إلى جانب تميز المستشفى في برنامج جراحات اليوم الواحد؛ لتخفيف الضغط على الأسّرة، وتحقيق رضا المريض، حيث استطعنا أن نصل إلى مرحلة متقدمة جداً من التطبيق الفعلي لبرنامج علاقات وحقوق المرضى والذي يتبناه معالي وزير الصحة شخصياً، وكذلك الصحة المنزلية، فنحن اليوم نشرف على أكثر من 50 مريضا في منازلهم، والتعامل بالصحة الالكترونية، والتوسع في أقسام الطوارئ والأشعة والعنايات الحرجة ومشروع العمليات الرقمية الذي يعتبر آخر ما توصل إليه العلم الحديث في هذا المجال". وأضاف إن نظام التشغيل الذاتي يعطي إدارة المستشفى مرونة في التعامل مع الأزمات التي تحدث بشكل اعتيادي وتخل بأداء العمل، كإجازات الأطباء، ونظام الدعم المؤقت خاصة في مجال التخصصات النادرة، وقد استقطبنا في هذا المجال قدرات طبية من أمريكا وأوروبا وبعض الدول العربية، وتم إجراء العديد من العمليات الجراحية النادرة ولأول مرة بالمنطقة.